ماسحة الأحذية!

مجرد صورة في الفضاء الافتراضي، صورة فحسب تمرّ كشريط طويل، مما قد نصطلح على تسميتها بمرايا الواقع، خلافاً لما حاول الغرب وحاكاه العرب من تسمية ملتبسة بحق (تلفزيون الواقع)!

هي صورة فتاة تجلس بصمت أمام (صندوق البويا) منتظرة أحداً ما، يمّر…. لتقوم بعملها، سعيدة -ربما- بحفنة من النقود، تسكت بها جشع صاحب منزل مستأجر، أو ديّان غليظ القلب، سليط اللسّان، وربّما وربّما… هناكَ رأيتها، لثوانٍ فيها امتزج الخيال بالواقع، دونما انفكاكٍ، فتأملت يديها الصافيتين دون لوثة (البويا)، ولم أسمع سوى نداء خافت خجول كوردة الصباح!

كان صندوقها الصغير، يشبه لعبة الصغار، أكثر براءة وصمتاً رغم وقعِ أقدام لم يُعنها إن اتسخت أحذيتها، أم لا بد من (تلميعها) قبل (تلميع) الوجوه، أو الكلمات، ومع ذلك ظلّ صمتها حارساً لوقتها البطيء في إيقاعه، لا لون له، فهل للوقت لون؟.. وثمة أصوات الباعة تلّون الفضاء الآخر غير مكترثة هي الأخرى، بجدال بعض النسوة حول جنون الأسعار، وترف (الموز) وكأن به يحيا الإنسان، همس بائع فاكهاني ظريف: ربما سيكثر الطلب يوماً بأن نسّهل التقاط صورة للذكرى مع (الموز)، وقد يصبح ثمرة محرّمة، وللقردة وحدهم أن يصعدوا شجرة الموز بلا ندم، ويرمون بلا حياء قشوره، وقشوره تنفع يا سيدي للتزحلق القسري!

ماسحة الأحذية، لم تفتها غريزة الصّياد، لكنها ظلّت واجمة أمام الكاميرا، ترفع أصابعها، ولسان حالها يقول: أنتم في المكان الخطأ!!.

وغير آبهةٍ بنظرات الفضول المتواترة من كل حدب وصوب، غيرُ مألوف هذا، مهلاً ليست -الفتاة- (كومبارس) في لقطة تلفازية عابرة، أو شخصية فرّت من خيال -مؤلف- خاتله الخيال، ففرّ من أوراقه ليصبح كائنه من لحم ودمْ.. أو صورة لرسام ماهر في زمن (الأسود والأبيض) كأن بالزمن توقف برهة، ذهلت ألوانه وتبدّدت، رجعت إلى الوراء خلف الذاكرة، لم تكن فيه أنثى الحرب قد وضعت فراخها، وتكاثرت….

رجعت إلى الصورة -إياها- لأجدَ رابطاً ما فيما بينهما، تلك فراشة يبهرها الضوء، وهذه المعلّقة كأيقونة، ثمة فرق، لكن الاثنتين أسيرتا متخيّل هو متخيّلنا، الذي لا ينجو من التأويل، لكأننا سنحتاج كل فائض هذا الخيال، والمفارقة أن الواقع بذاته قد أصبح فائض خيال، كثيف… والمسكينة… من زمن -الحرب- من لم تتقن لغتها ونارية مفرداتها، هي من ارتضت على (خشبة الحياة) دوراً بسيطاً، تماماً مثل من دفعت عربة وجابت بها دروباً خلفية، تبيع شيئاً من (الترمس) دون التفاتة أو تردّد، ولن تصبح تلك التي قادت حافلة، لتوصل الناس إلى بيوتهم، في زمن بعيد، حتى ألِفَ الناس أن امرأة تعمل سائقة تنافس الرجال، دون أن يأخذهم خوف بأنها ربما تتسبب بحادث مروري، وفي غير مكان لا تستطيع امرأة أن تقود حتى سيارتها الخاصة، خشية الفتنة والعياذ بالله…

* وفي زمن لا يشبه هذا الزمن كان صاحب (الغربة واليتيم) عبد الله العروي يشتق لغربائه صيغاً تعبيرية، يواسي فيها قلق زمنه وناسه، مؤثثا فضاءه السردي بمجاز اليُتم الصريح، يتواطأ قلمٌ مع نزف مخيّلة، ويجفّ واقع لتخصّبه مرويات شائقة.

*من ينسى قول ديستويفسكي، الأكثر عمقاً في فهم النفس البشرية -باجماع نقاده حينما جهر برأيه: (إن كل كاتب أو فنان، أو كل مثقف بوجه عام، ينظر إلى شعبه نظرة إزدراء، أو مجّرد ترفع، لهو إنسان جاهل، بما يخبئه هذا الشعب تحت أي مظهر من مظاهر تخلفه فيه، من إمكانات نهوض حضارية قادرة على البناء، هذا إلى جانب جهله أيضاً بنقاط الضعف في هذا الشعب التي تسبّب تأخره).

* زمن مسح الحذاء سيصبح أمثولة، فيما ينفتح على غير أزمنة يجري فيها ذلك الإبدال المفارِق: مسحُ الوجوه!

العدد 1140 - 22/01/2025