خارج السرب!
هكذا نام يوسف في تلك الليلة..
دسّ نفسه تحت البطانيات الثلاث التي تفوح منها رائحة كريهة لم يألفها طوال خمسة عشر عاماً..لكنه ظل عاجزاً عن استبدالها.. أغمض عينيه محاولاً الخروج بمخيلته خارج المكان. كيف أصبحت الشوارع والأبنية والساحات؟ وهل تغيرت الأشياء في مدينته؟!..كيف سيلتقي زوجته وأطفاله؟!.. ربما لم يعودوا أطفالاً!.. الصغير الذي كان في السابعة عندما اقتادوه إلى السجن.. لاشك سيجده وقد ارتسم على وجهه شاربان وربما لحية خفيفة. فجأة ارتسمت المقبرة أمامه وشاهدة مكتوب عليها الفاتحة واسم أبيه، وفي مكان غير بعيد عنها شاهدة أخرى وعليها الفاتحة أيضاً واسم والدته.. فأقسم على الفور أن أول ما سيقوم به هو زيارة قبر والديه قبل أي شيء آخر.
لكن مخيلته عادت إلى المهجع وبدأت تحوم في زواياه.. ضحك في سره بعد أن تذكر الطريقة التي أوصلته ليكون رئيساً للمساجين، ثم تساءل وهو يغمض عينيه في ظلام ما تحت البطانية:
– وماذا يعني ذلك؟!..
لاشيء سوى تأمين الراحة للمسؤول المناوب.. سيأتي ليأخذ التفقد المسائي..سيقف خلف الفتحة الصغيرة التي يتعثر الهواء عند الدخول منها.. فتحة بحجم ورقة من دفتر مدرسي صغير.. لكنها لا تسمح لليد الواحدة بأن تخترقها.. حتى ولا لأصبع واحدة. فالقضبان الحديدية تقسّمها إلى فتحات عديدة وصغيرة. سأقف ناظراً إلى من بالداخل وسأعطيه التفقد بكل ثقة!.. لن يجد نفسه مرغماً على فتح الأقفال المتعددة والدخول للتأكد من أمانتي!!.. سيكتفي كعادته بهز رأسه والقول:
– ناجحٌ في عملك يا يوسف!
هذا المساء.. لا يعلم لماذا أعادته تلك الكلمات إلى أيام الدراسة. كيف كان يصنع من أوراق دفتر المدرسة أشكالاً لطائرات مختلفة وزوارق متنوعة.. كان الأستاذ يقول له:
– ناجحٌ في عملك يا يوسف.. ستصبح صاحب أكبر مصنع للطائرات إن شاء الله. أمّا معلّمة اللغة الأجنبية فكانت تنظر إليه بعينيها الجميلتين، تبتسم وتقول له:
– ستكون بحاراً عظيماً يا يوسف.. وربما ستكتشف مالم يكتشفه كولومبس. أما والده فكان يكيل له الشتائم والصفعات، إذ لا يملك ما يكفي من مال لإطعام أخوته العشرة، أو لشراء دفاتر وكتب أخرى.
لكنه كان يتساءل دائماً:
– لماذا يُكثر الناس من إنجاب الأولاد؟!
عندما كان يطرح هذا السؤال على أحد أصدقائه كان يستغرب الإجابة، خصوصاً عندما يبدأ ذلك الصديق بشرح الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد والحروب المتوقعة في كل لحظة:
– الحروب تحتاج إلى المزيد من المقاتلين؟!
أمّا يوسف فكان يضحك ويتساءل بكثير من الاستهزاء:
– وعن أيّ حروب تتحدث؟!
– الحروب المقبلة!.. ستلتهم أرواح العديد من الشباب.
– يا رجل!!.. أصبحت الحروب تعتمد على التكنولوجيا أكثر من اعتمادها على الأشخاص.
– ومن قال لك هذا؟!.. يبقى الإنسان هو العامل الحاسم في أي حرب.
– أوافقك الرأي. ولكن.. ألم تسمع بالطائرات التي تغير على مناطق بعيدة لتقصف فيها أهدافاً وتعود دون أن يكون فيها أحد؟!
كان هذا السؤال حاضراً في مخيلة يوسف بشكل دائم. لكنه هذه الليلة وهو في ظلام البطانيات تذكّر أمراً كان يثير في نفسه الضحك والتعجّب. لقد ارتسمت أمامه صورة المدرب كيف كان ينهي محاضرته أيام خدمته الإلزامية بهذه العبارة. وكيف كان يقف حائراً أمام بعض الأسئلة والاستفسارات..
كان صديقه يقف مرتبكاً وحائراً تماماً كذلك المدرب. ثم لا يلبث أن يقول:
– نعم.. ربما.. ولكن الإنسان هو حاجة!.. ثم يصمت قليلاً ويشعل سيجارته.
ازداد الضجيج في الخارج، لكن يوسف لم يرفع البطانيات عن رأسه ليتبين ما يجري، بل بدأ يختلس السمع للأحاديث التي تدور. قال أحدهم:
وهذا المجنون النائم الذي يستعجل الصباح كي يخرج.. هل سيستطيع العيش على رقعة كبيرة من الأرض، يذهب حيث يريد وينام متى يريد ويأكل ويشرب ويلبس كما يشتهي ويتمنى؟!..كيف سيتعامل مع الناس؟!. هل سيقبله المجتمع أم أنه سيجد نفسه مرغماً على العودة إلى هنا مرة ثانية؟!
وقال آخر:
– من المؤكد أنهم فصلوه من وظيفته.. سيجد نفسه مضطراً للبدء من جديد!.. ربما سيرهقه التسكع في الشوارع وعلى أبواب أصحاب المعامل والمحال التجارية وأصحاب الشأن الكبير.. أقول ربما.. لكنني متأكدٌ من أنه سينتحر في النهاية.
وقال ثالثٌ كان نادراً ما يتكلم:
– لن يتمكن من إيجاد أيّ عمل!.. سيطلبون منه وثيقة غير محكوم.. وسيعجز عن تأمينها.. واثقٌ من عودته الى هنا.. لقد اعتاد في ظلمة هذا المكان على وظيفته التي لا تتطلب اية أوراق ثبوتية!.. اعتقد أنه لن ينتحر بل سيصاب بالجنون.
وقال آخرون وقد اختلطت أصواتهم وصيحاتهم:
– دعونا ننام.. لدينا أحلامنا التي اعتدناها!!.. لا نريد أن نتأخر عليها!!
عندها أطلّ المناوب من خلال ثقوب الفتحة الصغيرة لم يجد يوسف واقفاً بانتظاره. وعندما سأل عنه أخبروه أن يوسف يغط في نومٍ عميق فضحك مطولاً ثم قال:
– مسكين!.. كان ناجحاً في عمله.
أمّا يوسف فقد نام نومته الأخيرة دون أن يتمكن من الرد على الأصوات التي علت والتي تطالبه بحمل العديد من الرسائل الشفهية إلى من هم في الخارج!!