الإنسان في عصر الحداثة مجرد فرد

(الإنسان في المجتمع الثالث، هل هو إمكانية تجب العناية بها، أم أنه مجرد فرد عليه إيجاد سبب بقائه..؟)

سؤال قرأته، وأتساءل أيضاً، هل المقصود إنسان المجتمع الثالث فقط، أم الإنسان في كل المجتمعات…؟

لقد وهبت الطبيعة الإنسان ما لم تهبه لغيره من المخلوقات، فهو امتلك العقل والتفكير، إضافة إلى ملكة النطق التي استطاع بواسطتها التعبير عما يجول في تفكيره وخاطره ووجدانه. وبهذا استطاع ابتكار أنماط متعددة لحياته، فقد عمل وتعلّم واخترع واكتشف بعضاً من أسرار الحياة والطبيعة والكون بكل أبعاد الاكتشاف. فلو استخدم الإنسان هذه الملكات الاستخدام السليم والصحيح لتمكن من العيش بكرامة وحرية تليق بإنسانيته. غير أن ما نراه اليوم يتناقض مع إنسانية الإنسان الذي أصبح في كل بقعة من هذا الكوكب، خصوصاً في البلدان التي كانت تتغنى بأهمية وجوده وكرامته وإنسانيته، أمسى اليوم سلعة لتكديس أرباح الرأسمال الربوي الاحتكاري.

عام 2006 صدر عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة تقرير يُفيد أن ملايين النساء والأطفال من آسيا وأوربا الشرقية تحولوا إلى سلع بشرية تباع وتشرى في ميادين تجارة الجنس والعمل القسري العبودي.

(لقد تأهبت الجريمة ببعدها الأممي لتحقيق قفزة نوعية بالتوازي مع القفزة النوعية إلى الوراء التي حققها العهد الريغاني/ التاتشري الذي قاد عملية الارتداد إلى الوراء في السياسة الدولية إلى عهود الليبرالية المتوحشة، وأعاد الاعتبار لقوانين الغاب، وأيضاً مع تضعضع كتلة الدول الاشتراكية التي كان يجمعها حلف وارسو)(1)

إذا كان هذا ما يجري في العالم المتمدن والمتحضر، الذي كان يضع إنسانية الإنسان في أعلى سلم أولوياته، فكيف ستكون الصورة في المجتمعات النامية، أو التي اتُفق على تسميتها ببلدان العالم الثالث، ومجتمعاتنا العربية من ضمن هذه المجتمعات؟!

إننا نجد أن هذا الكائن الذي يسمونه إنساناً، لم يحقق من هذه التسمية إلاَ الشكل في غالب الأحيان، لأن مدلولاتها أكبر بكثير من نمط معيشته والتعامل معه في ظل الأنظمة والمجتمعات التي ينتمي إليها. إذ لا يتم هذا التعامل وفق منظومة العيش الحر الكريم الذي يليق بإنسانيته وآدميته التي حبته إياها الطبيعة، لأنه محكوم بمجموعة من القيم والعادات والقوانين التي تُقزّم وجوده إلى ما دون إنسانيته التي يطمح أن يعيشها. فلا نظم التربية، ولا التعليم، ولا الصحة، ولا التنظيمات السياسية، لا الحاكمة، ولا غيرها، ولا حتى القضاء الذي يجب أن يكون الفيصل العادل الذي يحمي المقهورين والمضطهدين، وفوق كل هذا وذاك، وجود الأعداد الهائلة من العاطلين عن العمل في تلك المجتمعات، علماً بأن من أولى حقوق المواطنة في أي مجتمع هو حق العمل، فضلاً عن تهميش العلم والمتعلمين وأصحاب الابتكارات والاختراعات على الصعد كافة (العلمية والأدبية والتكنولوجية) بل على العكس، إذ غالباً ما يُضَايَقُ هؤلاء أو يلاحقون بشبهات هم بعيدون عنها، وذلك حتى ييئسوا ويتهجروا بشكل طوعي ظاهرياً، لكنه في الحقيقة يأس قسري غير معلن.

يقول حيدر حيدر: (نحن غرباء في هذا العالم، غرباء فزعون، نعيش حياة محاصرة ومهددة لكأننا لصوص متهمون بذنب لم نرتكبه، في أية لحظة هناك اتهام ما جاهز لتنفيذ حكم مؤجل). (2)

فالإنسان في هذه المجتمعات يقع تحت اضطهاد وإذلال مركب(داخلي- خارجي):

أولاً- داخلي: ابتداءً من الأسرة التي تربيه على قيم ومفاهيم مجتمعية تقلص على الغالب إمكاناته الروحية والعقلية، التي تتطلب قدراً معيناً من الحرية الفكرية والشخصية. وهنا يكون لدينا كائن مسلوب الإرادة والحرية، واهنٌ عاجز عن امتلاك زمام أموره، خانع لما يُفرض عليه، خائف من سلطة الأهل والقيم والمجتمع، وبالتالي يصبح إما غير مبالٍ ولا مكترث بما يدور في محيطه، يحيا فقط لأن عليه أن يمضي سنوات عمره المقدر له أن يحياها كأي كائن يأكل ويشرب ويتناسل من أجل حفظ النوع البشري على متن هذه الحياة. أو يصبح متملقاً انتهازياً متظاهراً بحماية القيم والمفاهيم السائدة إرضاءً لسلطة الأهل بداية، وللنظم السائدة لاحقاً بحيث يصل إلى أهدافه دون مواجهات وخسائر.

إلاَ أن هناك حالات (قد تكون قليلة) يعتز فيها الفرد بإنسانيته، ويحترم عقله وفكره وذاته، ومن ثمَ يحترم مجتمعه الذي يشكل هو نواته الأولى، فلا يكون مستلباً منفذاً لما يُملى عليه من مفاهيم دون أن يكون له رأيٌ واضح فيها، باحثاً عن كل ما من شأنه أن يرتقي بالإنسان والمجتمع، لكنه فيما بعد قد يشعر بالاغتراب نتيجة الوضع السائد والعام في هذه المجتمعات وطريقة تعاملها مع أفرادها.

وبهذا الصدد يقول أرنست همنغواي: (من الممكن قهر الإنسان، ولكن من المستحيل تدميره).

ثانياً- خارجي: متأت من نظرة الدول والمجتمعات المتحضرة وتعاملها مع مجتمعه ونظمه الاجتماعية والسياسية والدينية وغيرها، إضافة إلى الاعتداءات المتكررة، المباشرة وغير المباشرة عبر التاريخ الإنساني على بلاده، واستغلال خيراتها تحت مسميات متعددة (مكافحة الإرهاب، نشر الديموقراطية…) وهذا الفرد يحيا بدونية وانتقاد دائم لمجتمعه ومفاهيمه ونظمه الحاكمة، محملاً إياها مسؤولية ما جرى ويجري، مشيداً باستمرار بالمجتمع الغربي وطريقة معيشته والتعامل مع أفراده، محاولاً تقليده في كل شيء(ما عدا إعمال الفكر والعلم للأسف) فيكون متلقياً لكل وافد من هذه المجتمعات، مستلباً في تقليده الأعمى لما تعرضه هذه الحضارات عبر أدبياتها، خصوصاً في هذه الألفية التي شهدت تطوراً كبيراً على صعيد الاتصالات والتلقي المباشر والسريع، الذي قلص المسافة والزمن أمام البشر من جهة، وأدى من جهة ثانية إلى ازدياد حدة الاستغلال المرير والتمايز الكريه بينهم حتى وصل إلى أسوأ أشكاله نتيجة لما أحدثته ثورة الاتصالات، التي أقصت مفهوم الكرامة الإنسانية والحرية إلى أبعد الحدود والمراتب، ليحل الرأسمال والاحتكار والربح في أعلى الدرجات من حيث التعامل مع الكائنات البشرية التي أصبحت بامتياز سلعاً تُتداول في الأسواق المحلية والدولية وفي كل المجتمعات.

(أدى افتقاد المجتمع ككل لأية آفاق للتطور المستقر، إلى أزمة عميقة في شخصية الفرد البشري، وضياعها في البحث عن بوصلة المسار الحياتي، فالإنسان من خلال منظومة الإمبريالية فقد تحول إلى سلعة عادية، وأما القيم الروحية التي أبدعت خلال آلاف السنين من تطور الحضارة، قد ديست واستهزئ بها، وفي الآن ذاته يشوهون جوهر الوجود البشري، والإمبريالية بنفيها الأخلاقيات والنزعة الإنسانية قد أوصلت الأمور إلى نفي الإنسان نفسه الذي هو أسمى ما خلقته الطبيعة).(3)

من هنا ندرك ما أصاب الإنسان الحديث من تحولات، جذرية أحياناً، وعاهات بدّلت مكانته، وشوّهت روحه وإنسانيته تجاه ما كان يرفضه سابقاً. فهو اليوم مجرد كيان يتحرك لإثبات وجوده دون تفاعل النفحات الإنسانية وحضورها في داخله، لأنه لا يدركها ربما، أو لأنه لا يحياها أصلاً..؟

يقول ألبير كامو صارخاً:

(انظروا إلى جثة البراءة التي نصطدم بها أينما توجهنا، إنها تعكس لنا عوراتنا، ولكنها تُظهر لنا جُبنَنا أيضاً، نحن نرفض الجريمة ولكننا نستمر في ارتكابها، وقد لا نجد ضرورة لتبريرها وتفسيرها). (4)

ويقول أيضاً: (إننا نعاني من الدوار، نشاهد الجريمة وهي تُرتكب أمامنا، ونراقب تجاوزات النازية والستالينية ورعب هيروشيما وحمامات الدم في الجزائر وفيتنام، ونتألم ونتوجع، ثم نطوي الصفحة لنراقب فظاعات لاحقة قد تكون أكثر هولاً، ولكننا نتحصّن دائماً بالجبن والبلادة ونكتفي بالإشهار).(5)

هنا، هل يبقى للتساؤل المطروح في المقدمة أي معنى أو خصوصية لمجتمع محدد بذاته، أم أن الحداثة في شكلها المعولم قد جعلت الناس مجرد أفراد أو أرقام خاضعين لمشيئتها..؟

مراجع:

(1) نصر الشمالي- العصابات الدولية تحتل مواقع الحكومات الرسمية- تشرين 3/5/2006

(2) حيدر حيدر- غسق الآلهة.

(3) نينا أندرييفا- ملحق البعث الفكري- العدد 44 تاريخ 1/5/2006

(4) ألبير كامو- الإنسان المتمرد.

(5) ألبير كامو- الطاعون.

العدد 1140 - 22/01/2025