العيش في نعيم الجهالة

 

قرأت مؤخراً خبراً عن (صبية) بريطانية عمرها (103) سنوات فقط، وهي لم تشاهد التلفزيون طوال حياتها، ولا اقتنت هذا الجهاز في بيتها أبداً، مكتفية بالاستماع الى الموسيقا من الراديو، ورغم معاصرتها لأحداث ضخمة مثل انهيار جدار برلين وهبوط الإنسان على سطح القمر، فهي لم تسمع بها (على ذمة حفيدها) وهي ما تزال متمتعة بصحة جيدة، وأظن أن السبب هو بعدها عن التلفزيون ومصائبه، وبعد قراءتي للخبر تساءلت عن إمكانية أن أفعل مثل تلك المرأة من أجل التمتع بهذه الراحة التي يوفرها العيش في نعيم الجهالة، وبالطبع كنت في هذه الحالة سأرتاح من مشاهدة جيوش الطباخين والمنجمين والمحللين والثرثارين وإعلانات النفخ والشفط، وكوارث الأخبار قبل كل ذلك… لكن المشكلة أن الناس لا تتركك بحالك، لأن كل واحد فينا هو عبارة عن (فضائية) كاملة، ولن تستطيع أن تنجو بسهولة من بثهم المباشر لكل ما يمكن أن يفوتك في التلفزيون، يجب أن تستمع وتؤكد اهتمامك بآخر زيجات الفنانات، وأحدث وصفات التنحيف، وما قاله المذيع فلان، ثم تعلن موقفك الصريح من قرار بطلة المسلسل التركي تجاه حبيبها الخائن! ولن يُقبل منك الحياد أو الرمادية بشأن المتسابق الأجدر في مسابقات الرقص والغناء التي تعرض على شاشات التلفزة التابعة لدول ما تزال تعتبر الفن كله (قشة لفة) حرام بحرام ، وهكذا ستجد أن التلفزيون سيلاحقك في البيت والعمل والسرفيس وفي قلب الملفوفة الذي تختبىء فيها، بل وحتى في الغرفة الجرداء التي استأجرتها على رأس الجبل، بعد أن هجرت بيتك.

 في هذه الحالة تستطيع أن تتمتع بنوع آخر من الجهالة يتيحه لك الانعزال عن الناس، مثل حالة والدي الذي اضطره المرض لملازمة البيت منذ أكثر من عشر سنوات، فحافظت ذاكرته على الأحوال العامة كما كانت منذ ذلك الحين، دون أن يمنعه ذلك من الغوص أكثر نحو الماضي الجميل في بعض الأحيان، ليصل الى ذاك الزمن الذي كان فيه كيلو اللحمة بعشر ليرات، والحقيقة أن تلك الحقبة تحلو له فيتحدث عنها باستمرار، ولأنه (مثل تلك المرأة الانكليزية) يفضل الاستماع إلى الراديو، فما زال لسان حاله يقول (لسه الدنيا بخير يا حبيبي…) مثلاً حين نجالسه، يسألنا أحياناً عن أسعار الفاكهة، فينبري أحدنا مازحاً ليقول: سعر البندورة كذا وسعر الخيار كذا، يرد: أنا أسألكم عن الفاكهة وليس عن الخضار! فنقول: ألم تعرف بعد أن الخيار والبندورة قد ترفعت وارتقت إلى مقام الفاكهة، وصار بإمكاننا تقديمها للضيوف مع رشة ملح؟ ولكي يصدقنا نقوم بسرد قائمة أسعار الفاكهة الموسمية من كرز ومشمش وتفاح، دون أن نجرؤ على ذكر سعر اللحمة وأشياء أخرى خطيرة كالحلويات والمكسرات مثلاً لكي لا تعاوده الجلطة ثانية، مع ذلك هو لا يصدقنا، بل يقول: ولكني استمعت إلى الراديو وقالوا إن أسعار المواد مقبولة، وهناك مراقبة للأسواق، وشيء اسمه تدخل إيجابي، كما يتحدثون عن محاربة الفساد، ومنع الاحتكار، فهل تريدون مني أن أصدقكم وأكذب الراديو؟!

ولمن يعتقد أن حالة المرأة البريطانية هي شيء فريد، فهو لم يتعرف بعد على زميلتي (جهينة)، التي تعيش خارج التاريخ، ولا تهتم لا بالسياسة ولا الفن ولا العلم ولا الأدب، فهي لا تعرف الفرق بين الصومال والسويد،ولا بين نانسي وكوندالزا رايس! ومن ميزاتها أنها لا تخجل من الاعتراف بجهلها، ومرة كان الحديث يدور عن السياسة فدخلت على الخط لتقول: ما أعرفه أنه كان في العراق رئيس اسمه صدام حسين، وأظنه قتل، ولكن لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك! هل صار عندهم رئيس آخر؟ ضحكنا وتابعنا الحديث عن اليمن فصاحت باستغراب: وهل أهل اليمن غيروا رئيسهم أيضاً؟!

أما أجمل أنواع الجهل فهو ما تختص به صديقة أخرى، إذ أنها بعد الأزمة قد اكتشفت أن هناك طوائف مختلفة في البلد، وكانت تظن أن الناس جميعاً مثلها، ولحسن الحظ أن ذلك الاكتشاف لم يؤثر على حياتها باستثناء أنها صارت تصنع لأولادها قوالب حلوى في المناسبات الدينية التي تخص الطوائف الأخرى بعدما كانت تكتفي بإحياء المناسبات الخاصة بطائفتها…. 

العدد 1140 - 22/01/2025