إفطار على مائدة سورية

لكل بلد تقاليد رمضانية يتباهى بها، إلا أن رمضان في سورية له تقاليد فريدة لا أتوقع وجودها في غير هذا البلد، فهنا ليس من الضروري أن تكون صائماً لكي تحظى بوليمة إفطار شهية مع الصائمين، بل حتى ليس بالضرورة أن تكون مسلماً لتشاركهم الإفطار…

شلة صديقات الجامعة كانت مؤلفة من خليط منوع من كل الاتجاهات دينية وفكرية واجتماعية، وحين يأتي رمضان كنا نكتشف أن لا أحد يصوم إلا صديقتنا عائشة، أما البقية فلكل واحدة أسبابها ومبرراتها للتملص من الصيام، فواحدة لم تألف الصيام بحكم الولادة والوراثة، وأخرى تبدي أسباباً صحية، وزميلتها لها أسباب نفسية دائماً، كأن تقول: كيف سأصوم وأنا دون صيام مكتئبة، خصوصاً أني أحمل فوق ظهري تسع مواد للامتحان، وعندي إحباط عاطفي أيضاً؟ بينما لا تخلو المبررات من أسباب إيديولوجية أيضاً، إذ تنبري إحداهن لتقول: وهل على الفقراء أن يصوموا أيضاً؟ ألا يكفي الحرمان طول السنة؟ الصيام وجد ليشعر الأغنياء بالجوع ويجربوا الصبر، أما نحن فقد جربنا هذا الشعور طويلاً … أما عائشة فقد كانت تستمع إلينا دون تعليق وتواصل صيام الشهر كله مع الحرص على تأدية طقوسه جميعاً بكل خشوع، حتى أنها كانت تقضي ليلة القدر بطولها جالسة تقرأ القرآن. وفوق ذلك فهي تحرص على دعوتنا كل عام للإفطار في منزلها رغم معرفتها أننا لا نصوم!، وللأمانة، ففي ذلك اليوم بالذات نحاول الصيام أو على الأقل التظاهر بذلك من باب الأدب، ولكن الحقيقة كانت تبرز بوضوح فوق وجوهنا المرتاحة من عناء الصيام، ومن نشاطنا في التسكع بعد المحاضرات، والأهم من خلال طول ألسنتنا وقدرتنا على الثرثرة والنقاشات العقيمة، فما إن نصل إلى بيتها حتى نبدأ بحديث ديني حسب الأصول، تبدأ إحدانا بتوجيه الكلام إلى جوليا قائلة: لو كان صيامنا مثل صيامكم لصمت الدهر كله لا أربعين يوماً فقط، أصلاً أنا بطبعي نباتية، إلا في المناسبات، فما أسهل أن أصوم هكذا. عندئذ ترد عليها جوليا وهي تشير إلى المائدة العامرة التي بدأت تصفّ أمامنا: بل صيامكم أسهل… يكفي أنكم في نهاية النهار تأكلون ما لذ وطاب، أما نحن فنشتهي حتى قطعة الشوكولا… وتستمر المناقشة إلى أن يقطعها صوت آذان المغرب، فننقض على الطعام الشهي المطبوخ بكل محبة، والمطيب ببهارات الروح المؤمنة حقاً، ولا أبالغ لو قلت أن مضيفتنا كانت تصر على أن تعد لكل واحدة منا أكلتها المفضلة،وخصوصاً للبنات القادمات من محافظات أخرى والمحرومات من طبخ الأمهات، وهكذا نقضي وقتاً ممتعاً، لا يشغلنا فيه عن الملوخية بالدجاج، والفتة بالسمنة، والفتوش، والكبة، وغيرها سوى نكات وطرائف نحاول أن نغيظ بها صديقتنا الحمصية. ولأننا غير صائمات، فإن شهيتنا للطعام تكون جيدة، على عكس مضيفتنا التي تكتفي بالقليل، فترجونا أن نأخذ راحتنا، بينما تنهض هي لتأدية صلاتها، وهنا ننتقل إلى حديث فقهي آخر حول الصلاة، والمعوقات التي تمنعنا من تأديتها، وخصوصاً صلاة الفجر، لذا كنا كثيراً ما نسأل صديقتنا باستغراب: هل حقاً تؤدين الفجر حاضراً؟ إذ لا نتخيل كيف يمكن للإنسان العادي أن يترك فراشه في هذا الوقت المبكر وخصوصاً في الشتاء ليتوضأ ويصلي. حتى أننا كنا نحاول إقناعها بأن هذا الفرض كان معقولاً في بداية الإسلام وفي جو الجزيرة العربية الصحراوي، لأن الإنسان هناك قد يجد متعة في الاستيقاظ فجراً قبل أن يشتد حر الصحراء، أما عندنا فهذا ظلم خصوصاً لمن يسهر للدراسة! وكانت تكتفي بالابتسام من كلامنا والتعليق بأننا نستحق أن نعيّن في دار الإفتاء، ثم تواصل تقديم الحلويات والعصائر والقهوة، وسرعان ما يتحول الحديث إلى الجانب الذي يروق للصبايا، ليطغى صوت الحب فوق كل صوت.

والآن تفرقنا في جهات الأرض، ومن بقي هنا شتتته الحرب، ولكن بقيت ذكرى ذلك البيت السوري الذي يعرف حقاً معنى رمضان ومعنى الصيام.

العدد 1140 - 22/01/2025