هكذا يخططون لهزيمة منصور!

نزولاً عند وصايا علماء نفس الطفل، وربما إرضاءً لنزوات الطفل الكبير الذي يقال إنه قابع داخل كل منا، أحرص بين الحين والآخر على مشاركة أطفالي متابعة بعض برامجهم التلفزيونية التي يحبون. بيني وبينكم، التجربة لا تخلو من متعة قد لا نجدها لدى متابعة معظم برامجنا نحن الكبار عدا أنني اكتشفت من خلال هذه التجربة أن البرامج الموجهة للطفل غالباً ما تحترم عقله بأكثر مما تفعل نظيراتها الموجهة للكبار المفترض أنها تخاطب عقولاً راجحة عاقلة.

مناسبة هذا الكلام هي أن المصادف شاءت أن أقع أثناء متابعتي لإحدى حلقات أحد هذه المسلسلات الكرتونية على مفارقة غريبة تستحق بعض التوقف وربما الكثير من التأمل، المسلسل يعرض حالياً على إحدى المحطات التلفزيونية الخليجية المخصصة للأطفال وهو بعنوان (منصور)، واللافت في هذا المسلسل أنه مُعدّ ومُنتج خصيصاً للطفل العربي حيث تدور أحداثه ويومياته في مدينة عربية تحاكي بمظاهرها ومعالمها العديد من تلك المدن الخليجية الحديثة بأبراجها الشاهقة، وحدائقها المنسقة، وحتى بسيارات الدفع الرباعي التي تجوب شوارعها العريضة المحاطة بصفوف أشجار النخيل الباسقة، أما شخصيات المسلسل فخليجية اللهجة والملبس والعادات. إلى هنا وكل شيء يبدو طبيعياً، فمن حق كل مجتمع  أن يقدم لأطفاله ما يناسب خصوصيته وثقافته ونمط حياته بغض النظر عن الأسلوب والتفاصيل، لا بل يمكن النظر إلى هذه التجربة  – بحسن نية – كخطوة متقدمة على طريق كسر الاحتكار الغربي لهذا النوع من المنتج الهام في عصر الفضاء المفتوح.

ولكن. في الحلقة التي أحدثكم عنها، وباختصار شديد، يخوض بطل المسلسل الطفل منصور ورفاقه، إضافة إلى جده الحكيم مغامرة خطيرة في البحر (الخليج) على ظهر مركب صغير، حيث يتعرضون لهجوم أخطبوط عملاق أوشك أن يبطش بهم وبمركبهم الصغير، ولكن في اللحظة الحاسمة يأتيهم المدد من حيث لا يحتسبون. ينشق سطح البحر عن غواصة هائلة تطفو على وجه الماء لتنتشلهم من أذرع الأخطبوط الشرير الذي لا يلبث أن يولي هارباً بعد أن نال نصيبه من بأس فولاذ الغواصة الصلد المتين. إلى هنا أيضاً لا يزال كل شيء ضمن حدود المألوف. مغامرة بسيطة مشتملة على العناصر التقليدية التي تبنى عليها جلّ حكايات الأطفال وبعض قصص الكبار (الضحية البريئة – الشرير – البطل المنقذ)، أما الخارج عن المألوف والمعقول فكان مشهد النهاية السعيدة المتمثل بلحظة التعارف بين الضحايا الأبرياء والمنقذ المغوار. حين يفتح باب الغواصة  ليطلّ منه ربانٌ بهيّ المحيّا مهاب الطلة بكامل لباسه الرسمي وأوسمته المدلاة على صدره ليخاطب الناجين بكل ود ومحبة وظرف أيضاً، إنما باللغة الإنكليزية!! ليس هذا فحسب، بل بلغتْ اللباقة بهذا الربان الودود مبلغ تكلّفه نطق عبارات الوداع  بلغة عربية مكسّرة زادته نبلاً على نبل! وذلك بعد أن أكمل معروفه بقطر مركبهم المعطل إلى شط الأمان.

طبعاً. المغزى أوضح من أي شرح أو تعقيب، والمشهد بأسره يختزل لبّ ما يدور الحديث عنه في أوساط القائلين بنظرية المؤامرة،المحذرين من أخطار الغزو الثقافي والفكري، ولكنه إضافة إلى ذلك يؤشر إلى ما هو أبعد من ذلك،إنه ينبئ عن مستوى جديد من مستويات استهداف الوعي العربي وكيّه وإن بدا تقليدياً من حيث موضوع الاستهداف الذي يذكرنا بأفلام رامبو وجيمس بوند الهوليودية الشهيرة، ولكن مع اختلاف جوهري يتمثل بالتواطؤ المفضوح هنا ما بين المستهدِف والمستهدَف أولاً، والفئة العمرية المستهدفة ثانياً، والأهم من ذلك أنه يؤشر إلى مدى عمق أزمة الهوية والانتماء التي تضرب صميم بعض المجتمعات العربية.

منذ قرون خلت، تحدث الفيلسوف العظيم ابن خلدون عن تأثر التابع بالمتبوع وتقليد المهزوم للمنتصر، كما تحدث غيره عن دسِّ السم  في الدَّسم، ولكن بالله عليكم تذكّروا معي، هل حدث أن سمع أحدكم من جدّته أن الصَّياد الذي أنقذ ليلى وجدتها من براثن الذئب كان يتحدث الإنكليزية أو السنسكريتية؟

السؤال الأهم الذي أحمد الله على أنه لم يخطر لأي من أطفالي أن يصدمني به هو:

ماذا تفعل غواصة يقودها ربان ناطق بالإنكليزية عند شواطئ مدينة عربية؟!!

العدد 1140 - 22/01/2025