بشير العظمة….(1910 -1992)

 ولد بشير العظمة في دمشق عام 1910 لآل العظمة، الأسرة العريقة في دمشق التي يرجع نسبها لإسماعيل باشا التركماني الشهير بالعظمة، والتي من رجالاتها حسن بن موسى باشا العظمة، والشهيد يوسف العظمة.

تلقّى العظمة علومه الأولى في كتّاب الشيخ السفرجلاني، ثم انتقل إلى مدرسة التجارة الخاصة، فمدرسة الملك الظاهر حيث أتقن التركية، وفي عمرٍ مبكر شهدَ العظمة دخول الملك فيصل دمشق وبداية الحكم العربي، واستشهاد ابن عم العائلة وزير الحربية يوسف العظمة، وانتقل إلى مكتب عنبر المدرسة الثانوية التي كان لها الحظ في تخريج رجالات دمشق في النصف الأول من القرن الماضي، وفي تلك الفترة أظهر العظمة نهماً شديداً للقراءة.

عام 1925 انتسب إلى المعهد الطبي، وفي عام 1934 تخرج في جامعة دمشق، وارتحل إلى باريس ليتابع دورةً في مكافحة مرض السل بترشيحٍ من الصليب الأحمر في دمشق. عاد إلى دمشق ومارس مهنة الطب في عيادته الخاصة، وعام 1940 تزوج من ريما كرد علي، ابنة الأسرة الدمشقية العريقة. استمر حتى عام 1958 يمارس الطب متنقلاً بين باريس ودمشق، بعيداً عن أي طموح سياسي، بل كان شاغله الأكبر هو مكافحة مرض السل الذي انتشر في دمشق عام ،1937 وتكللت جهوده عام 1950 بتأسيس (الجمعية السورية لمكافحة أمراض السل) مشروعاً طبياً اجتماعياً وطنياً، وكانت حصيلة طوابع السل كافيةً للبدء ببناء مشفى في دمشق وحلب للمسلولين انتهى بناؤه أوائل الستينيات.

تعاطف العظمة مع ثورة الضباط الأحرار في مصر، وأعجب بشخصية عبد الناصر، وعن كتاب (جيل الهزيمة) صفحة 183 ننقل: (تحمّست للوحدة مع مصر وشاركت في تزوير الاستفتاء على الدستور وانتخاب عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة لتبلغ نسبة القائلين نعم 98,99 % بأن أدليت بصوتي في عدة صناديق، وكأن القائمين على الاستفتاء من الأجهزة عاجزون عن ملئها من دون عناء).

في مطلع تشرين الأول عام 1958 استدعي العظمة إلى القاهرة وكلّف بوزارة الصحة المركزية للإقليمين.

بعد عامين من الإقامة في القاهرة وزيراً اسمياً دون عمل، أيقن العظمة فشل تجربة الوحدة التي لم تكن- بحسب ما صرح شخصياً- إلا محاولةً لضم الإقليم الشمالي وإخضاعه بالقوة، تقدم باستقالته وعاد إلى دمشق في 20 آب عام 1960 يترشح نقيباً للأطباء السوريين، ونجح فعلاً في الانتخابات النقابية، بالرغم من التهديدات والحملة الشرسة التي شنتها عليه أجهزة عبد الناصر وأزلامه في سورية.

مع انقضاء الوحدة مع مصر، تشكلت حكومة برئاسة الدكتور مأمون الكزبري رفض العظمة الاشتراك فيها، ثم جرت الدعوة لانتخابات نيابية ومجلس تأسيسي لإقرار دستور جديد للجمهورية العربية السورية، فنجح العظمة عن دمشق، وتشكلت وزارة برئاسة الدكتور معروف الدواليبي لم تعش طويلاً في مواجهة عبد الناصر وفلوله في سورية، إذ قامت مجموعة من الضباط بالانقلاب واعتقال الرئيس القدسي ورئيس حكومته الدواليبي، وأعلن جاسم علوان قائد المنطقة الشمالية أن سورية هي الإقليم الشمالي للجمهورية، وكاد يحدث اقتتال بين الوحدات العسكرية في الشمال والجنوب، فاتفق الضباط على عقد مؤتمر تفاهم في حمص، نتج عنه مقررات بضرورة الإفراج عن الوزراء والنواب المعتقلين، وتأليف وزارة مهادنة للناصرية.

في 16 نيسان عام 1962 اتفق على تكليف العظمة بتشكيل الوزارة، وبقي في الرئاسة لمدة خمسة أشهر في واحدة من أغرب الفترات في التاريخ السوري الحديث، فهذه الوزارة التوافقية تعرضت للهجوم من جميع الأطراف، العسكريون من جهة وجماعة الحوراني والبيطار والإخوان من جهة أخرى، وحرب إعلامية ناصرية شرسة توّجها عبد الناصر بوصفه لسورية في أحد خطاباته بالإقليم الشمالي، مما دعا العظمة للتوجه بشكوى ضد مصر إلى مجلس الجامعة العربية

في 13أيلول من العام نفسه شكلت وزارة برئاسة خالد بيك العظم، وهو العملاق السياسي المتمرس الذي بدا للوهلة الأولى بأنه يملك الحل، وقد عُيين العظمة فيها نائباً لرئيس مجلس الوزراء.

اعتزل العظمة السياسة التي لم تكن اختياره أو هاجسه في الحياة، فدخل الوزارة وخرج منها دون أن تطبعه أو يطبعها بسمةٍ سياسية. عن الكاتب السوري زهير شلق ننقل (كان العظمة طبيباً ناجحاً ومتفوقاً وأستاذاً عالماً، ثم كان وزيراً يستوعب معنى المسؤولية ويرغب في تحمّلها والقيام بأعبائها، ثم أخيراً كان رئيساً للوزراء توخى النزاهة والاستقامة والحياد… يكفيه من النجاح أن أحداً لم يشكُ منه).

عكف العظمة على كتابة مذكراته التي صدرت عام 1991 تحت عنوان (جيل الهزيمة من الذاكرة) وهذه المذكرات إضافة فريدة إلى المكتبة العربية، كتبها العظمة بصدق وتصالحٍ مع النشأة ومع الذات، وإن جنح أحياناً إلى جلد الذات بصراحةٍ تفوق أحياناً صراحة جان جينيه وأدريه جيد، والكتاب أدبي بامتياز لا يضارعه في صراحته من كتب السير والمذكرات العربية الحديثة سوى كتاب (خارج المكان) لإدوارد سعيد، كما صل أحياناً إلى مقام الفلسفة الروائية (دوستويفسكي).

توفي العظمة في دمشق عام 1992ودفن فيها، وعن زوجته في ذكرى وفاته ننقل: لن أرثيك وقد عشت حياتك عريضة عميقة وبقناعاتك، كما أحببت أن تعيش.

العدد 1140 - 22/01/2025