ترسم خريطة اقتصادية خاطئة….تقديرات وزارة الزراعة للإنتاج غير صحيحة
تحافظ وزارة الزراعة على حالة من التفاؤل على مدى عام كامل، باستثناء أشهر جني المحاصيل، إذ تبدي تشاؤمها، وتنسحب من المشهد العام، وتلقي باللائمة على الجهات الأخرى التي تتداخل مع صلاحياتها. وبالتأكيد، حافظت وزارة الزراعة على حضورها القوي في الاقتصاد الوطني، لكنها فشلت في المحافظة على الزراعات الاستراتيجية، وعلى الثروة الحيوانية أيضاً. ورغم الميزة النوعية لسلالات القطعان، يُجمع الخبراء على حاجة البلاد إلى تحسين هذه السلالات، لزيادة قيمتها المُضافة، وذلك باعتماد أساليب تربية أفضل. لعبت الزراعة دوراً مهماً أثناء الأزمة الراهنة، وسجلت حضوراً قوياً مقارنة بالقطاعات الأخرى، ومن المتوقع أن تكون نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت بشكل واضح، لسبب بسيط جداً، هو توقف قطاعات أخرى، والضرر الكبير الذي لحق بالقطاعات الإنتاجية. وهذا لا يعني إطلاقاً أن الزراعة بخير، ولا يعكس الوضع المرير الذي يعاني منه الفلاحون، كما أنه يقدم مفهوماً خاطئاً لخريطة الاقتصاد الوطني الذي تعرض لحرب ظالمة، كانت كفيلة بتدميره، وتوقف منشآته عن العمل، وجعلته اقتصاداً مديناً.
وإذ تسعى وزارة الزراعة لبث التفاؤل، في نفوس الناس، قبيل مواسم الحصاد، فإن تفاؤلها، مبنيّ على خططها الورقية، التي لم تتغير أثناء الأزمة الراهنة، مقارنة بالفترة السابقة، ولم تك استجابتها دقيقة لمواجهة تحديات هذه الأزمة، والمنعكسات السلبية التي فرزتها. وبالتالي ساهمت بخلق واقع تضليلي، ورسمت وهماً إنتاجياً، وبنت آمالاً غير صحيحة. واتضح أنها سعت إلى خلق حالة طبيعية لجهة الإنتاج، ولكنها ابتعدت كثيراً عن الحقيقة، ومعاناة المنتجين. إذ مازالت وزارة الزراعة تزعم أن خططها تطبق، بدليل تقديراتها للإنتاج، لاسيما للمحاصيل الاستراتيجية وأبرزها القمح والقطن فضلاً عن الشوندر السكري. كيف يمكن الاقتناع أن سورية مازالت تنتج سنوياً، وفق إحصاءات وزارة الزراعة ،2015 مقارنة مع ،2011 أكثر من 3 ملايين طن قمح، و1,3 مليون طن حمضيات، وما يزيد عن 300 ألف طن تفاح، ومليون طن زيتون، و1,5 مليون طن شعير؟ وهذه أرقام تزيد عن الإنتاج الزراعي قبل الحرب، أي أن إنتاجنا زاد، إن لم يحافظ على مستواه؟ من يصدق أن عدد رؤوس الأغنام زاد مليوناً جديداً وصار 19,2 مليوناً، إضافة إلى إنتاج 2,4 مليون طن حليب، وهو الرقم ذاته خلال فترة المقارنة؟
هل ترى وزارة الزراعة أن محافظة كالحسكة مازالت تنتج القمح كما هو معتاد؟ في الحقيقة، تحول عدد كبير من مزارعي الحسكة من إنتاج القمح إلى المحاصيل والنباتات العطرية، الأقل تكلفة إنتاجياً، وليست بحاجة إلى عمالة كبيرة، كما أن نسبة الخطر في هذا الإنتاج الجديد أقل بكثير، والجدوى الاقتصادية محققة. هذا التحول المهم في الإنتاج، تعلمه وزارة الزراعة، ولا يمكن إخفاءه بغربال، لكنها لا تهتم، ولا تعترف به، بدليل عدم حديثها عنه، ومحافظتها على تقديرات إنتاج القمح كما هي مقارنة بالمواسم السابقة. ومثال القمح ينسحب على عدد من المحافظات الأخرى، كالرقة ودير الزّور، أي منطقة الجزيرة السورية التي تشكل خزان البلاد الغذائي.
تراجعت الزراعة في سورية، نتيجة السياسات الحكومية التي حابت أصحاب رؤوس الأموال، والاتجاه الحكومي العام نحو القطاعات الخدمية، وأتت الحرب وأكملت على الجزء المتبقي منها. ظل الفلاح السوري مظلوماً، ولم تقدم له الحكومات المتعاقبة ما يدعمه، ويجعله محافظاً على مهنته. وهذا لم يلحق الضرر بالفلاحين وحسب، بل كان المتضرر الأول من هذا الإهمال هو الاقتصاد الكلي.
تمتلك سورية ثروة زراعية يمكن أن تضاهي ثروات باطنية كالبترول، بقيمتها: الحبوب والخضروات والحمضيات والتفاح والفواكه الأخرى، الخالية من الأثر المتبقي، فضلاً عن امتلاكها أغنام العواس، وغيرها من ثروة حيوانية، ومع ذلك لا تستفيد البلاد من هذه المنتجات. هل يعقل أن الإنتاج المحلي الزراعي صار عقبة عمرها أكثر من ربع قرن، ولم تستطع حكومة حلها؟ من يصدق أن بلدنا لا يمتلك أسواقاً لتصريف منتجاته؟ وأنه لم يستطع حسم قضية إقامة معمل لتصنيع المنتجات الزراعية كالحمضيات؟ الفضيحة المريرة هي أن البلد الزراعي يستورد الغذاء، هذه قضية كبيرة، لا علاقة لأنماط الاستهلاك بها، بل المشكلة في عدم توافق الإنتاج مع الاحتياجات الجديدة. ولهذا صارت الزراعة تتراجع، والمساحات تنحسر، والمشاريع تتوقف، والمستثمرون يفضلون قطاعاً كالنقل. وبما أن المنتج الحقيقي غائب ومغيّب، فكيف سيكون حال اقتصادنا؟
يشبه واقع اقتصادنا، حال الغراب الذي حاول تقليد مشية البطة، لا هو أتقنها، ولم يتذكر مشيته الحقيقية. والآن وزارة الزراعة، كغيرها من الوزارات، تكرر الأخطاء ذاتها، تعبر عن تفاؤلها بموسم حصاد جيد، وترى في ورقات الخطط إنتاجاً، بينما عدد كبير من الفلاحين لا يستطيعون الوصول إلى حقولهم. اغتالت الحرب عقولاً نيرة، وفي الوقت عينه اغتالت أشجار الزيتون، وحرقت المحاصيل، هذا واقع مرير أنتجته الحرب، ومهدت له خطط غير دقيقة. ومع ذلك، كل مؤشرات الزراعة تدعو للتفاؤل، لكن الخراب الذي يخيم على هذا القطاع، والتخريب المزدوج الذي تعرض له يثير أسئلة كثيرة أبرزها: هل باتت سورية بلا زراعة؟ كل المؤشرات تؤكد أن سورية البلد الزراعي المشهود له بجودة منتجاته، لم يعد بلداً زراعياً، وذلك قبل اندلاع هذه الحرب الطاحنة على أراضيه. إذ بات بلداً أخر، لم يحافظ على ميزاته، وعناصر قوته، ونسي ما كان عليه. هذه مشكلة البلدان التي تودي بها الخطط غير المنطقية إلى التهلكة، فيما تصرّ حكوماتها على رسم المشهد بألوان زاهية رغم الدمار والحرب والخراب. بالمناسبة الحرب لم تقضِ على الزراعة، بل أكملت السيناريو القاضي بتصفيتها.