إضعاف الدول : مطلب إمبريالي وخدمة للكيان الصهيوني
الشعوب التي لا تحمل ذاكرة لا تنتظر من حكامها أو خصومها أن يكونوا دفاتر مذكرات لها، جميعنا يتساءل كيف استطاعت الحكومات العربية قلب بعض المصطلحات والمفاهيم الإنقاذية للشعوب الفقيرة والمفقرة، لتصبح مفاهيم مرفوضة عند من هم أكثر الناس احتياجاً لها.
إن مجموعة المفاهيم والمصطلحات التي تتحدث عن الحريات والمساواة، والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، أصبحت مرفوضة عند الكثير من أبناء مجتمعاتنا، بسبب ثقافة التضليل التي مارستها وتمارسها السلطات السياسية والدينية، لتشكيل حالة وعي مشوه عند الغالبية من المجتمع، لتتمكن هذه السلطات من بقائها المتحكم الأول بالسلطة والثروة، معتمدة بذلك ثقافة التجهيل والتضليل.
في العقد الأخير من القرن الماضي التقيت مع مدرس لمادة الفيزياء من أصول فلسطينية وكنا نتحدث عن تطلعات الشعب الفلسطيني، وحلمه بالعودة، وضرورات الوحدة العربية، لتحقيق ذلك الحلم في الوقت الذي كان جل اهتمامه الهجوم على النظام في سورية بذريعة سعيه لتطبيق النظام الاشتراكي، الذي يعتبره مسؤولاً عن الكارثة التي حلت بالعرب، وعلى رأسهم سورية، وكان يعتبر انقطاع المواد الغذائية في ثمانينيات القرن الماضي عودة لوجود نظام اشتراكي في سورية.
لكنه لم يستطع رؤية ما قدمه الاتحاد السوفييتي للشعب الفلسطيني من مساعدات مالية ومعنوية ودعم بالمحافل الدولية، ولم ير البعثات التعليمية، والدعم لحركات التحرر العربية، وما أشبه اليوم بالأمس عندما تشاهد من كان يدافع عن القطاع العام، وعن الاشتراكية في القرن الماضي هو أشد أعداء القطاع العام الآن،
و أكثر المدافعين عن النظم الرأسمالية المتوحشة، ويعتبر أن جزءاً من مأساتنا هو عدم السير في القاطرة الرأسمالية، وعند الحديث عن التعليم المجاني والإلزامي، وانتشار المدارس على كامل الجغرافيا السورية، وتقديم الوجبات الغذائية لجميع طلاب البلدات والمدن النائية، وتوزيع المواد التموينية الضرورية من سكر وزيت وأرز وشاي بأسعار لا تكفي أجور نقل هذه المواد من المحافظة إلى المناطق أو إلى محافظات أخرى، تجد من يقول إن القطاع العام، والنهج الاشتراكي التي فرضته الدولة هما سبب مشكلاتنا.
العمل على قلب المفاهيم ودلالاتها أمر شبه مبرمج عند البعض، بيد أن من حق الأجيال الجديدة علينا معرفة بعض المعلومات الضرورية عن دور الدولة، وأهمية القطاع العام سواء في مجال التعليم أو الصحة،
أو غير ذلك، ومن حقهم أيضاً أن يعرفوا أن المواطن القوي يعبر عن دولة قوية، والمواطن الضعيف يعبر عن دولة ضعيفة، ويجب أن يعرفوا أنه وفي جميع الدول الرأسمالية يوجد قطاع عام، وله حصانته وأهميته، ولا يمكن تجاوزه أو المساس به.
لذلك تسعى الإدارة الأمريكية ومن يحالفها دولياً وإقليمياً العمل على إضعاف الدول العربية بشكل عام والدولة السورية بشكل خاص، لأن الإدارة الأمريكية أخذت على عاتقها أمن الكيان الصهيوني واستقراره، بالتعاون مع جميع الدول الاستعمارية وحلفائها من الدول العربية. والإدارة الأمريكية هي أكثر من يعرف بعدم إمكانية استقرار الكيان الصهيوني مادام يوجد دولة قوية بجواره، لذلك نشاهد التركيز على محاولة إضعاف الدولة السورية بشتى السبل وإشغال المجتمع في أزمات اقتصادية واجتماعية تغرقه وتبعده عن معرفة حقوقه وواجباته الحقيقية، التي تجعل منه مواطناً قوياً يساهم في بناء دولة قوية.
إن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الأحزاب السياسية والنخب الثقافية، التي يجب عليها القيام بواجباتها الوطنية، المتمثّلة بالعمل على نشر ثقافة جديدة، تمنع تضليل المواطنين وتساهم في بناء جيل جديد أقل تعقيداً من الأجيال الراهنة، التي أثبتت ضعف مناعتها وهشاشة ثقافتها.