حنا.. وهو يفتح بيته للتلفزيون!

لا أعرف ما الذي جعلني أستعيد رواية (المصابيح الزرق) سريعاً، وأنا أقرأ عن زيارة صحيفة (الثورة) لحنا مينه في بيته، ثم وأنا أشاهد أكثر من تقرير تلفزيوني عن زيارة مماثلة قام بها وزير الثقافة مع وفد إعلامي قبل أيام!

ربما هي الحرب التي نعيشها الآن، لأن تلك الرواية تتحدث عن الحرب أيضاً، وبطبيعة الحال فإن الحرب تجعلني أتذكر طلاء المصابيح باللون الأزرق، وهو مفتاح التداعي الذي حصل معي، فتذكرت أيضا حرب حزيران عام 1967 لأني عشتها، وأعرف معنى استلهام هذا العنوان من الحرب العالمية الثانية!

كانت الحرب في تلك السنوات، تحمل الكثير من الذكريات، بدءاً من أصوات صفارات الإنذار التي تعم المدينة لحظة الغارة الجوية، وصولاً إلى الليالي المعتمة التي تجعل من إشعال الأضواء مؤشراً على وقوع خطر محدق، وكأن أضواء المنازل أو الحارات أو حتى أضواء السيارات قادرة على جعل الطائرات تكشف أهدافها بدقة الرؤية في النهار، و لا أخفيكم أنني إلى الآن لم أقتنع بعد بأهمية طلاء المصابيح بالأزرق أيام الحرب وأثر ذلك على تحقيق الطائرات الحربية المغيرة لأهدافها!

حنا مينه لم يعد في زماننا هذا، الذي نعيش فيه، مجرد كاتب ينشر بين فترة وأخرى رواية ما تتضمن شخصيات محددة، تقودها الأحداث إلى مصير محدد في زمان محدد.. لقد أصبح ببساطة محطة رئيسية من محطات الرواية العربية يشغلها سوري بعظمة اسم هذا البلد..

كان حنا في الصور التي شاهدناها على شاشة التلفزيون نحيلاً، واهن الجسد، هرماً، لكنه كان عميق النظرات، يحمل على ظهره المتعب أعباء الحياة الصعبة التي عاشها وجعلته قادراً على صياغة تجربته الروائية ممزوجة بتجربة ثقافية عالية خالطتها تجربة حياة غنية!

لقد أخافتني صور حنا مينه تلك، فهذا يعني أن جبروت الكاتب وعظمته وهو يصنع الشخصيات القوية على الورق، شخصيات تجعل القارئ يعيش معها ويتـأثر بحركتها وكلامها.. إن هذا الجبروت سيتقهقر أمام ثقل السنين!

لا أريد أن أرى حنا واهن الجسد، وعلى نحو أدق، لم يكن بإمكاني أن أتصور هذا الإنسان بهذه الصورة، وهو الذي حرّك شخصيات (المصابيح الزرق) و(بقايا صور) و(الدقل) و(حكاية بحار) و(نهاية رجل شجاع)، وغيرها من الأعمال الخالدة.

لقد اعتدتُ أن أرى حنا مينه وهو يعلق سيجارته على شفته دائماً، عميق النظرات، لايهتم بالكاميرا، وتبدو الكاميرا في أغلب الأحيان مرتبكة أمامه غير قادرة على استيعاب ملامحه..

عندما شاهدتُ تقارير التلفزيون المصورة عن حنا، عرفتُ أن الصراع الأساسي لحنا مينه لم يكن مع الطبقات المستغِّلة أو مع البحر أو الاستعمار أو مع المرأة، بل كان صراعاً مع الزمن، وهاهو ينتصر على الزمن بنظرته العميقة الواضحة تماماً في قلب الوهن!

العدد 1136 - 18/12/2024