لم يوفقوا إطلاق النار.. بل ليجملوا المذبحة

د. نهلة الخطيب:

لا توازنات على مستوى الاقليم، ولا توازنات على مستوى العالم، ومتغيرات لا يحكمها قانون واحد أو نمط مألوف، فالظروف الاقليمية والدولية باتت أكثر تعقيداً، فأين هو العالم الآن؟ وأين هو الشرق الأوسط؟ تحدثوا عن عالم متعدد الأقطاب، ينطلق من دمشق فكانت النتائج اسقاط أنظمة، ومحو دول من خارطة القوى الفاعلة وانحسارها لصالح إسرائيل وأمريكا، وكل دولة تمتلك قوة عسكرية واقتصادية في الشرق الأوسط هي هدف قادم لأمريكا التي تقود العالم وتملك خيوط الحل في الشرق الأوسط، عالم لا مكان فيه الا للقوي، والفشل في فرض هدنة انسانية للحرب الدائرة في غزة طيلة خمسة عشر شهراً يؤكد أن الشعوب الضعيفة تدفع الثمن عند اختلال توازن القوى والصراع على مستقبل النظام الدولي.

بايدن ترك لترامب تركة كبيرة وارث خطير جداً، تحدق به الأزمات من كل حدب وصوب، في الشرق الأوروبي، والشرق الأسيوي وأخيراً في الشرق الأوسط، بايدن الصهيوني حتى الثمالة الذي لم يتوقف عن التبشير بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، أخفق في فرض وقف لإطلاق النار ووقف المذابح، فنتنياهو لم يفعل في غزة أكثر مما فعلته أمريكا في اليابان وألمانيا، بعد سنة ونيف، وبعد التدمير الهائل في قطاع غزة وحرب الابادة غير المسبوقة تحقق سعي بايدن في التوصل لاتفاق لوقف اطلاق النار، انجاز تُمكنه والديمقراطيون في مرحلة لاحقة بالتفاخر» نحن من أنجز هذا الاتفاق»، ولكن لم يكن من الممكن التوصل له لولا تدخل ترامب ومتابعته خطوة بخطورة «وبدون صفة رسمية»، ترامب أراد انهاء كل الملفات قبل توليه السلطة، وعد بوقف اطلاق النار في غزة ولبنان واستطاع أن يجعل ذلك واقعاً، هدد الشرق الأوسط وهدد الجميع بالجحيم، وهل هناك جحيم أشد هولاً من الجحيم الحالي، وكلنا يدرك ماذا ينتظر المنطقة!!

نعم، فعلها ترامب، ونجح، وهو صاحب الهيبة، ولكن فيما يتعدى هذا الهدف المرحلي، كان ولا يزال الهدف القضاء على حماس، وهو موقف ادارة بايدن وادارة ترامب، الادارة الصقورية الجديدة بالإجماع لا تعتبر أن التفاوض جائز مع طرف إرهابي «كما تصنفه»، ولابد لهذا الطرف أن ينتهي وينهزم، ولكن لابد من مجاراة ترامب ومنحه أنياً، ولكنها تعد العدة بأن لا يكون هذا الاتفاق الا مرحلياً، «المرحلة الأولى فقط»، وتعد العدة للقضاء على حماس هذا ما صرح به ترامب وهذا ما يريده نتنياهو، هو يريد استكمال الحرب وانتصار إسرائيل،  ولكن هناك اعتبار أخر ربما اعتبار التفاضل وأغراض الصورة، بـأنني أفضل من بايدن، أنني أنا الرئيس وبهيبتي فعلت ومن يتوقع غير ذلك!!، هو يريد استقرار بالمنطقة بمنظور إسرائيلي، وأن ما جرى ليس خارطة طريق لانتهاء الحرب ما جرى هو بعض الخطوات الجانبية التي تتعارض مع المسلك الأمريكي الإسرائيلي والسعي للقضاء على خصوم إسرائيل، لم يوفقوا اطلاق النار، بل ليجملوا المذبحة.

المشكلة في تمادي إسرائيل وغياب القيادة الأمريكية الحازمة، أمريكا دولة عظمى تحكم العالم، وإسرائيل دولة صغيرة يحكمها يمين متطرف لديه أجندات وطموحات لإقامة امبراطورية دينية يهودية توسعية، انبطح أمامها بايدن وقدم لها دعم غير محدود، نتنياهو استغل ضعف بايدن ودعمه اللامحدود ورفضه مبدأ الضغط على إسرائيل، الآن هناك قائداً جديداً لأمريكا، وهو ليس بايدن، لن ينبطح لنتنياهو ويقدم دعم غير محدد دون تجاوب، وأمريكا لن تسلم سياستها الخارجية إلى إسرائيل، الفرق بين ترامب وبايدن، أن الأول ينظر إلى مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، «الخليج العربي، مصر، تركيا»، بعكس بايدن الذي أمسى دمية بيد نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف، التي لم تكترث بتلك المصالح، وانتهت بإسرائيل بمحكمة الجنايات الدولية، وهذا يجب أن لا يستمر، فأمريكا تعي مدى التداعيات الكارثية للوضع في الشرق الأوسط، فخسارة إسرائيل تعني خسارة الشرق الأوسط.

وبنهاية المطاف على أمريكا أن تضغط على إسرائيل، التي تهمها العلاقة مع أمريكا، وعندما أمريكا تغير سياستها  بالدعم غير محدود، تتحول المعادلة الداخلية بإسرائيل فهناك من يريد السلام، وهناك معسكر سلام بإسرائيل ودعم بايدن جعل معسكر الحرب أقوى، الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية أقرا بأنه لا يمكن القضاء على حماس، ويؤيدان صفقة التبادل ولكن السلطة السياسية لا تريدها، فإسرائيل المدفوعة بعقيدة توراتية توسعية تريد طرد الفلسطينيين من غزة والضفة، ونتنياهو اليوم أسير لمجموعة من السرديات السياسية التي قام ببنائها في الفترة الماضية، حكومته غير مقتنعة بالذرائع التي يسوقها، سموتيرش وبن غفير يضعان شروط للمشاركة في الحكومة وهو الاستمرار في الحرب في المستقبل القريب أو البعيد، وربما هذه المطالب تشكل عقبة في شكل العلاقة بين نتنياهو وترامب في المستقبل على الأقل بعد اتمام المرحلة الأولى من الاتفاق.

اتفاق ببنود غامضة تتحمل أكثر من تأويل ربما هذا مقصود، وربما هناك ملاحق سرية وتفاهمات شفهية بضمانات أمريكية، ولكن بالصيغة الحالية كل طرف يقرأه بشكل مختلف، وأخطر شيء في هذا الاتفاق المرحلة الثانية، وهي الحاسمة التي تتضمن انهاء الاحتلال وكيفية ادارة قطاع غزة ومن يتولاه، لا يمكن التحدث عن المستقبل السياسي لغزة واعادة الاعمار قبل وقف اطلاق النار وتحرير المحتجزين، وهو بيت القصيد، لا يوجد أي أليات ملزمة سوى حسن النوايا وهي غير موجودة، أو ضمان بأن يبقى ترامب متفرغ لهذه القضية، وهو يدرك من يعطل المفاوضات وما هي تفاصيل المفاوضات السابقة، وهنا ستتفجر فيها الكثير من الخلافات سواء فلسطينية- فلسطينية، أو فلسطينية- إسرائيلية في ظل رفض إسرائيل تسليم القطاع للسلطة أو لحماس.

ما دامت أمريكا تعيش حالة من السقوط الأخلاقي، وهي من تدير موتى الأخرين، والآتي خطير جداً، وما من شك أن أمريكا تصنع التوتر في كل أنحاء العالم، وترامب جزء من هذه السياسة، ولا نتوقع أن يكون أقل اهتماماً بإسرائيل من أسلافه ولكنه أكثر اهتماماً بأمريكا. مشاريع كبيرة تتربص بنا، ونعلم أن لعبة الحرب ستسمر حتى ينتصر طرف ويرسم معادلة جديدة للعالم، ستلعبها الادارة الجديدة وستحدد موقفها من حروب المنطقة وتحركها للتفاوض.

العدد 1140 - 22/01/2025