نتنياهو.. في الجريمة والعقاب

د. نهلة الخطيب:

ذكريات مزعجة من الماضي وهواجس عزلة دولية خانقة في الحاضر تتضافر جميعها ضاغطة على أعصاب نتنياهو، الذي لم ينتهِ بعد من محكمة العدل الدولية، فجاءته مذكرة الجنائية الدولية. صدور مذاكرات اعتقال غير مسبوقة من المحكمة الجنائية الدولية بشأن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية واستخدام التجويع سلاحاً، بحق نتنياهو ووزير الدفاع المُقال غالانت، اتهامات تأتي استكمالاً لمسار تحقيق أجرته المحكمة بشأن مجريات الحرب في قطاع غزة المستمرة منذ أكثر من أربعة عشر شهراً.

هذا القرار يعتبر صفعة لإسرائيل ولأمريكا ولبايدن تحديداً، الذي كان منتقداً لسياسة ترامب الرافضة للتنظيم الدولي ومؤسساته، وانسحب من عدة مؤسسات دولية وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وقام بايدن بإزالة هذه العقوبات وأعاد التعاون مع المنظمات الدولية، وتغنّت إدارته والكونغرس ديمقراطيين وجمهوريين بحكمة وحيادية هذه المحكمة عندما أصدرت قراراً باعتقال الرئيس الروسي بوتين بعد بدء الحرب الأوكرانية، ولكن الاستثناء الإسرائيلي يبقى قائماً في السياسة الأمريكية، فعندما يتعلق الأمر بإسرائيل وجرائمها وادانتها، تنتفض أمريكا وبايدن الذي يتفاخر بصهيونيته ضد المحكمة والتشكيك بمصداقيتها واستقلاليتها، وهذا فشل سياسي آخر للإدارة الأمريكية الحالية، قد يسهّل على ترامب الانتقام من المحكمة.

بعد 14 شهراً إسرائيل تقول إنها فشلت في تحقيق الشرعية الدولية لهذه الحرب المتواصلة والمستمرة، وبدا الائتلاف الحكومي يشعر أن نتنياهو يمثل معضلة وليس فرصة، وتهديداً  وليس قوة، فإسرائيل تعيش أزمة، ونتنياهو شخصياً يعيش أزمة داخلية وقضائية، فهو ملاحق من القضاء الإسرائيلي، والآن عليه أن يتعامل مع القضاء الدولي، وهذا يضيق الخناق عليه ويُضعف مقدرته على الاستمرار في المتاجرة بسردية الحرب وتنفيذها، ومع افتراض أن هذا سيضيق الخناق عليه وعلى حكومته، وإن تسبب بضرر نفسي ومعنوي على إسرائيل وانتصار للمظلومية الفلسطينية، ولكن لدينا تجارب سابقة مع مواقف صدرت عن منابر دولية فيما يتعلق بتقييد حركتها، وكيف تعاطت إسرائيل معها، كانت تذهب باتجاه معاكس تماماً، تزيد من وتيرة قوتها التدميرية وتوغلها، وهذا هو المنطق الإسرائيلي، بدعوة بعض الوزراء للتشديد على غزة وسكانها.

إذاً ردُّ إسرائيل على هذا القرار مزيدٌ من بسط قوتها التدميرية على قطاع غزة وعلى المنطقة.

أمام كل هذه التفاعلات بدت على إسرائيل ملامح المفاجأة، باعتبار أنها لم تكن تتوقع ذلك، رغم كل هذه الجرائم التي ارتكبتها والتي على أثرها صدرت هذه المذكرات، فإسرائيل اعتادت أن تمارس دور الضحية طيلة السنوات الأخيرة، بل منذ إنشائها، ولكن بفعل هذا القرار صارت إسرائيل تستشعر المزيد من القلق فيما يرتبط بقادة الجيش وحتى الجنود الذين قد يكونون عرضةً لهذه المحاكمات. وتخشى إسرائيل أن يتكرّر هذا النموذج القانوني لدى عدد من الدول التي تتخذ خطوات ضد إسرائيل، هذا الأمر دفع إسرائيل إلى مزيد من الخطوات خلال الساعات الأخيرة الماضية، ولديها عدّة مسارات: مزيد من الضغط والعقوبات على السلطة والحالة الفلسطينية والتضييق على إدخال المساعدات الإنسانية لدفع الدول المساندة لتلطيف هذا القرار أو إلغائه، وضمّ الضفة واحتلال غزة، وستسلك مساراً قانوني للالتفاف على القرار، والضغط على محكمة الجنايات من خلال أمريكا، وذلك بسلسلة من المواقف والتوصيات تعدّها لإدارة الرئيس المنتخب ترامب، وكان ردّها على هذه المذكرات باتهام المحكمة بمعاداة للسامية والتشكيك بهذه القرارات وأنها قرارات سياسية. إسرائيل اتهمت كل المنابر الدولية التي انتقدتها بأنها معادية للسامية، واتخذت مواقف حادّة اتجاهها، عقوبة معاداة السامية تطبّق على كلّ من يتضامن سياسياً أو إعلامياً وينتقد جرائم وانتهاكات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وشعور إسرائيل أنها فوق القانون ليس في إطار هذه الحرب فقط، وإنما على امتداد وجودها بسبب مواقف الغرب منها وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، فقد سمحت لها تلك المواقف بهذه الغطرسة والتعالي، وهذا هو السياق الذي نتوقعه في سلوك إسرائيل ما دام موقف أمريكا في حدّته، كما بدا على لسان بايدن وكلّ الإدارة الأمريكية الحالية وربما القادمة، فهو يسبق الموقف الإسرائيلي باستعلائه بهذا القرار، مما يجعل لدى إسرائيل حالة من الاطمئنان أن أمريكا لن تسمح بتنفيذه أو ربما تسعى إلى إلغائه، باعتبارها الدولة الوحيدة التي لها هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية مطلقة في العالم وتضرب بكل مكان، بفرض هيمنتها وقوتها على الغرب والمحكمة الدولية بتعديل مسار هذا القرار، فالعالم لا يحكمه القانون والأخلاق بقدر ما تحكمه قوة أمريكا. تعهد فريق ترامب أنه سيفرض عقوبات على المحكمة ويردعها عما تقوم به ضد إسرائيل، ولكن أعتقد ان كل هذه الضغوط ستفشل أمام استقلالية المحكمة، وهذا هو حجر الاساس في الدفاع عن موقفها الصلب ويشكل اجماع أوربي عليه الراعية لهذه المنظمة.

ما يهمّ نتنياهو هو استمرار الحرب والقتل في غزة والعدوان على لبنان، فهو لا يريد الانسحاب، ولا يريد صفقة إطلاقاً، ولا يعنيه موضوع الأسرى، الخيار العسكري هو الخيار الوحيد لنتنياهو رغم أن الجيش ليس معه، هذا الصدام والخلاف في مسار الحرب برمتها عناوين كبرى للصدام بين المؤسسة العسكرية والنواة السياسية بإسرائيل ينذر بتغيير استراتيجي، بالأمس كان الجيش علمانياً مقاتلاً (بقرة مقدسة)، واليوم الجيش يعتبر خائناً في نظر المجتمع الإسرائيلي والتيار القومي الديني وفي نظر نتنياهو، هناك حالة انقسام استراتيجية في الدولة، وبذلك يتزامن وضع داخلي مهتز بوضع ميداني متأرجح، جبهة لبنانية تبدي بسالة عالية، وندية عالية لمعادلة بيروت مقابل تل أبيب، وفشل عسكري في جباليا حالياً، الجيش لم يستطع حتى اللحظة إخلاء مخيم جباليا، ولا إخلاء شمال غزة، ولا القضاء على المقاومة فيها، ولم يستطع إعادة أيٍّ من الرهائن ولا تحقيق أي هدف عملياتي، هذا كله من شأنه أن يجعلنا نقرأ المشهد بطريقة فسيفسائية.

نحن نتحدث عن عقلية تمردية استغلالية انتهازية متمثلة بشخصية نتنياهو ما يهمه بكل الأمر هو تثبيت اقدامه وسياسته وبرنامجه، وعندما يتكامل العامل الداخلي مع العامل الدولي المتمثل بمحكمة الجنايات الدولية مع العامل الداخلي المرتبط مع عدم القدرة على تحقيق الأهداف واثبات قدرته على ادارة الصراع، يجعله يهرب إلى الامام، لن يستطع التصعيد أكثر مما هو عليه الآن وبالتالي يريد أن يشن حملة تخوين وتهديد داخل المجتمع الإسرائيلي حتى يعيد ضبط الداخل والعلاقة الداخلية بما يمكن ان يمنحه مزيد من الكذب والتسويف لبرامجه واهدافه، نتنياهو بات يدرك أن مشروع الصهيونية الدينية يصل إلى حائط  يصطدم به بالداخل الإسرائيلي وربما يتحول إلى حالة من الصراع الداخلي الإسرائيلي، وبالتالي ما استطاع أن يبنيه على مدار سنوات طويلة قد يفقده بلحظه معينة ولذلك يدافع عن نفسه مشروعه وايديولوجيته، ونتنياهو يقدم مصلحته الشخصية وبرنامجه ومنهاجه على حساب الدولة وهذه واحدة من أخطر المراحل التي تمر بها إسرائيل.

العدد 1140 - 22/01/2025