الصراع الألماني – الألماني.. الحكومة في خانة اليك

فادي إلياس نصّار:

نشرت مجلة (الإيكونوميست) اللندنية، عام 2005، على غلافها، صورة كبيرة لنسرٍ فيدراليٍ (الشعار الوطني لألمانيا) مفتول العضلات، وأشادت يومذاك باقتصاد ألمانيا القوي، ثم عادت ونشرت الشهر الفائت تشرين الأول (أكتوبر) 2024، أي بعد عشرين عاماً، على الغلاف ذاته، النسر الفيدرالي الألماني ذاته، ولكن هذه المرة يضع النسر جناحاً أمام رأسه دفاعاُ عن نفسه. وألحقت الغلاف بتقريرٍ خاص من خمس عشرة صفحة، يتحدث عن نقاط القوة لدى ألمانيا، ويشرح بعدها حالة الضعف والتخبط السياسي والصعوبات الجمة التي تواجه الاقتصاد، مٌركِّزاً على تراجع دور البلاد كقوة اقتصادية أوربية مهيمنة.

في الوقت ذاته صرح وزير الاقتصاد الألماني (روبرت هابيك) مؤكداً تدهور الوضع في بلاده، قائلاً: إن الظروف الاقتصادية لبلده (غير مُرضية)، وأن ألمانيا تواجه أول ركود اقتصادي منذ أكثر من عشرين سنة.

هذه هي ألمانيا اليوم، التي ظلت لفترة طويلة، القوة الاقتصادية الأكبر والمُحرِك الحقيقي للنمو في الاتحاد الأوربي، والضابط القوي لبلدان (الشنغن).

نعم، عملاق الصناعة العالمي بدأ يشعر بالضعف، رغم وجود مئة مليونير فيها (يوضح تقرير الثروة العالمية الصادر عن مجموعة بوسطن الاستشارية  (BCG)  أنه في عام 2022، كان لدى حوالي 2900 شخص في ألمانيا أصول مالية تزيد عن 100 مليون دولار أمريكي لكل واحد منهم، وأن حصة هؤلاء من إجمالي الثروة في ألمانيا تبلغ 21 في المئة، وهي نسبة أعلى من أوربا الغربية كلها.

ألمانيا ذاتها، خامس قوة اقتصادية في العالم والأولى أوربياً، أصبحت اليوم الأبطأ نمواً بين الدول منطقة اليورو، وربما تحولت الى عبءٍ كبير عليها.

كل هذا كلام نظري، منشور في مئات الصحف الألمانية منها والعالمية، لكن في هذه المقالة دعوة لنرى الواقع الألماني، عن قُرب.

 

فجوة الأيدي العاملة

تواجه ألمانيا نقصاً حاداً في اليد العاملة، سببه الأساسي هو شيخوخة المجتمع (قلما يشاهد المرء شباباً وأطفالاً في المدن ونادراً في القرى والبلدات، وهذا العام 2024 بلغت نسبة الولادات فقط 9.3 بالألف، واحتلت ألمانيا المركز الأخير عالمياً بنسبة الولادات)، فسوق العمل في ألمانيا تفقد كل سنة حوالي 350 ألف شخص في سن العمل، من جيل الطفرة السكانية (أي الأشخاص الذين ولدوا في السنوات القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة). يخرج هؤلاء على التقاعد، دون توفر بديل كافٍ من الشباب ليشغلوا أماكنهم.

وتشير تقديرات المسؤولين الألمان إلى أن البلاد ستعاني نقصاً في أعداد القوة العاملة بنحو ثمانية ملايين عامل في البلاد بحلول عام 2035، فقد قدرت وزارة الاقتصاد الاتحادية أن حوالي 360 مهنة من بين 801 مهنة في ألمانيا تواجه حالياً نقصاً حاداً في العمالة الماهرة، في حين أقرت 55 في المئة من الشركات الألمانية بأن لديها حقيقةً نقصاً في اليد العاملة، وأن هذا سيشكل خطراً على أعمالها المستقبلية.

هذا النقص جعل الحكومة في عهد ميركل تبحث عن حلول لاستقطاب اليد العاملة، ففتحت الأبواب على مصراعيها للمهاجرين الفارين بسبب الحروب من بلدان مثل سورية، العراق، اليمن، أفغانستان، واليوم يتدفق الأوكرانيون بالآلاف يومياً. وهناك أيضاً آخرون فارّون من الفقر والتمييز العنصري من دول القارة الإفريقية، وآخرون من دول آسيوية كإيران وباكستان أو بلدان أمريكا اللاتينية (كولومبيا بالدرجة الأولى). أضف إليهم المهاجرين من دول أوربية فقيرة مثل اليونان، بولونيا، وبلغاريا ويوغسلافيا السابقة.

لكن هذا الحل كان فاشلاً، فقد غطى المهاجرون ما يقرب من 30 في المئة فقط من نقص الأيدي العاملة الخبيرة، فيما توجه 50 في المئة من اللاجئين فقط الى سوق العمل، بينما وجدت البقية منهم في نظام المساعدات الاجتماعية، خياراً سهلاً مُريحاً ومُربحاً (يبلغ الراتب الشهري للشخص الأعزب 563 يورو، فيما يبلغ راتب المتزوج 506 يورو، إضافة إلى حوالي 350 يورو لكل ولد، أضف إلى ذلك تكاليف السكن والضمان الصحي والتعليم).

في ظل هذا الوضع وجدت المستشارة أنجيلا ميركل نفسها في نهاية حكمها الذي دام 16 عاماً، في ضياع حكومي وسياسي فظيع، غارقة في مستنقع اللاجئين والطاقة، بل ورَّثت نتائج سياساتها لخليفتها المستشار (أولاف شولتس) الذي بذل كل الجهود لاستقطاب العمالة التخصصية، من دول مثل البرازيل، فيتنام والهند وغيرها. وفي هذا الإطار أقرت الحكومة الألمانية في جلستها الأخيرة بتاريخ 16 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حزمة قوانين تهدف إلى استقدام الكوادر الفنية المتخصصة إلى البلاد من الهند.

 

من سيّئ إلى أسوأ!

لم يعد بالإمكان حل مشكلة نقص العمالة، ولا حتى ضبط زمام الأمور، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، فبعد أن ارتفع معدل التضخم، حلقت الأسعار عالياً، فزاد امتعاض الناس وعلت الأصوات في المظاهرات بإسقاط الحكومة، وتراجعت الصناعة وخاصة بعد الفطام الروسي القاسي لمصادر الطاقة (الغاز)، وتعمقت الهوة بين الولايات الشرقية ونظيرتها الغربية، ونما التيار اليميني المتطرف بسرعة (وخاصة بعد مقتل عدة ألمان على أيدي مهاجرين) وانتشرت الجريمة، والفساد، وباتت القوانين أكثر إرباكاً، في ظل البيروقراطية القاتلة، يقول صديقي الألماني هيلموت شتاينير وهو أستاذ جامعي متقاعد، علم مادة التاريخ في جامعة برلين لمدة ثلاثين عاماً: (ألمانيا اليوم ليست ذاتها قبل عشر سنوات، ونتوقع الأسوأ في السنوات المقبلة، والناس غير مرتاحة، كله نتيجة السياسة الفاشلة للحكومات التي رافقت ميركل).

هذا العام 2024 خفضت معاهد البحوث الاقتصادية توقعاتها للنمو الاقتصادي الألماني. وقالت إنه من المرجح أن ينخفض ​​الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.1 في المئة، فيما تتوقع تلك المعاهد نمواً بنسبة 0.8 في المئة لعام 2025، وبنسبة 1.3 في المئة لعام 2026.

وربما تكون هذه المعاهد قد بنت توقعاتها تلك على عدة معطيات أهمها، أن الصناعات الرئيسة القوية والتي تصل مساهمتها في إجمالي القيمة المضافة إلى 26,6 في المئة (وهي الأعلى بين بلدان مجموعة السبعة الكبار G7)) كصناعة السيارات والصناعات الكهربائية وبناء الآلات والصناعات الكيميائية، والتي ترتبط بها تقليدياً أسماء شركات كبيرة معروفة عالمياً، مثل شركات ميرسيدس بنز، فولكس فاغن، BMW، مان، سيمنز، بوما وأديداس. قد تضررت نتيجة ارتفاع اسعار الطاقة، بعد أن قطع بوتين شريان الغاز عن ألمانيا.

 

قصة الغاز

ارتكبت ميركل خطأ كارثياً بحق الاقتصاد الألماني، حين اتخذت عام 2020، قراراً بالتوقف التدريجي عن استخدام الفحم الحجري (تعتمد ألمانيا على الفحم في تغطية حوالي ثلث احتياجات البلاد من الطاقة)، وبدأت البلاد بالاعتماد بشكل كبير ومن جانب واحد على الغاز الروسي، فوضعت بذلك كل بيض الإقتصاد الألماني في سلة الغاز الروسي، فما كان من الكرملين إلا أن استخدمها كسلاح جيواستراتيجي فور إعلان ألمانيا وقوفها الى جانب زيلينسكي.

فإضافة الى تضرر الصناعات الكيميائية، والصناعات المعدنية، وصناعة الورق، بشدة بشكل خاص، وهذه القطاعات لا تمثل نسبة كبيرة من الناتج الصناعي الألماني (16% فقط)، لكنها تستهلك حوالي 80% من الطاقة الصناعية (معظمها قادم من روسيا)، فقد تسبب قطع الغاز الروسي عن حكومة برلين بارتفاع أسعار الكهرباء بشكل جنوني (وصل الارتفاع في الربع الأول من 2024 الى نسبة 388 في المئة) وارتفعت أسعار البنزين والغاز السائل والزيوت ووسائل النقل العامة، والمواد الغذائية وغيرها.

 

التنين الصيني والسيارات

في تقرير لها تشير صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية أنه وعلى مدى عقود من الزمن، ظل الاقتصاد الألماني يسير ضمن مسارات ربحية كبيرة مدعوماً بالصادرات إلى الصين والغاز الرخيص من روسيا.

وتعتبر ألمانيا الى جانب الصين والولايات المتحدة من أكبر البلدان المصدرة في العالم. ففي عام 2022 وحده بلغ حجم الصادرات الألمانية حوالي 1600 مليار يورو، لكن التنين الصيني سرق من النسر الألماني، أكبر الأسواق الآسيوية لتصريف منتجاته، فقد تعلم الصينون أسرار صناعة السيارات من الألمان الذين ذهبوا أصلاً إلى الصين بحثاً عن أيدٍ عاملة رخيصة وسوق عملاقة لتصريف منتجاتهم، فعمقت الصين استراتيجية (صنع في الصين)، وتحول التنين الى منافس صناعي مخيف للنسر الألماني، فصنعت الصين السيارات الكهربائية، بالجودة الألمانية ذاتها وبأسعار أقل، الأمر الذي دفع مؤخراً شركة (فولكس فاغن) (أكبر شركة في ألمانيا، عدد عمالها في ألمانيا فقط يبلغ حوالي ١٢٠ ألف عامل يعملون في عشرة مصانع تنتج السيارات) لإعلانها عن إغلاق ثلاثة من أكبر مصانعها وتسريح عشرات آلاف العمال، وذلك بعد أن كانت الشركة ذاتها هي الأعلى مبيعاً للسيارات في الصين.

 

نمو اليمين المتطرّف

تعاني ألمانيا عموماً والولايات التي استقبلت عدداً كبيراً من اللاجئين (ولايات إيسن، شمال الراين، وبرلين) من الجريمة والفلتان الأمني الرهيب، فلا يمر أسبوع دون جريمة يرتكبها أحد اللاجئين بحق مواطنين ألمان، هذا الأمر ولد كراهية لدى الكثير من أهل البلاد، وظهرت نتائجه، في صناديق الاقتراع منذ انتخابات عام 2017، فقد دخل حزب (البديل من أجل ألمانيا_   FPD) اليميني الشعبوي لأول مرة إلى البرلمان. وهو حزب معادٍ للأجانب، انبثق من حزب النازيين الجدد، ينمو بسرعة، وبدأ مؤخراً يلعب دوراً سياسياً من الصف الأول، فقد اكتسح انتخابات الأقاليم في ولايتي تورينغين وساكسونيا، كما حقق في انتخابات البرلمان الأوربي، نصراً غير مسبوق له، إذ حصل على 16% من الأصوات، فحل في المركز الثاني، وكان تقرير نشره موقع (يورونيوز) قد رأى أن (صعود اليمين المتطرف وخاصة في ولايات ألمانيا الشرقية، كان مدفوعاً بعدم الرضا العميق عن الحكومة الائتلافية، والمشاعر المناهضة للأجانب، والشكوك حول المساعدات العسكرية لأوكرانيا).

 

وحش التضخم

أدى دخول ألمانيا في الحرب الروسية الأوكرانية الى زيادة فظيعة في التضخم، فقد وصل معدل التضخم في شهر شباط (فبراير) 2022 إلى مستوى 5.1 في المئة) بحسب مكتب الإحصاء الأوربي- Eurostat).

وكشفت بيانات مكتب الإحصاء الألماني، عن ارتفاع معدل التضخم عاد وارتفع، خلال شهر أكتوبر الماضي، إلى 2.4%، بعد أن كان قد انخفض الى 2.1% في شهر آب الماضي.

 

لعنة الإضرابات

شهدت ألمانيا في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري 2024، أكبر عدد من الإضرابات العمالية منذ 25 عاماً، وقد أضرب العاملون من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط، بسبب تدني الأجور وعدم تناسبها مع زيادة التضخم وتباطؤ النمو.

وأدى إضراب عمال شركة السكك الحديدية الألمانية (دويتشه بان) المملوكة للدولة، بداية عام 2024 إلى توقف حركة السكك الحديدية والمطارات في البلاد، كما توقف الأطباء عن عملهم أيضاً في المستشفيات وحتى قطاع البنوك شهد إضراب موظفيه عن العمل لعدة أيام.

 

في خانة اليك

هذا الوضع حدا بأحزاب المعارضة في نهاية الشهر الماضي، تشرين الأول (أكتوبر)، أن تطلب من رئيس البلاد (فرانك شتاينماير) (رئيس المانيا هو منصب تقليدي فقط، بينما يتمتع رئيس الوزراء بالسلطة التنفيذية) حل الحكومة والدعوة إلى انتخابات مُبكرة.

 

الأم التي أكلت أولادها

ولدت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في مدينة هامبورغ، لأب (قس) في الكنيسة الإنجيلية، لكنها ترعرعت في ألمانيا الشرقية (أيام الحزب الاشتراكي الموحد)، ودرست مجاناً في جامعاتها (جامعة لايبزغ)، لكنها طالما أعربت عن كرهها العميق للشيوعية والشيوعيين. وهي المرأة التي تسببت بسقوط هيلموت كول، المستشار الألماني الذي قاد البلاد إلى وحدتها. سقوطاً مدوياً، نعم، أسقطت الرجل الذي طالما اعتبرها فتاته المدللة، والذي وضع لها أول قدم في (الحزب الديمقراطي المسيحي cdu). طعنت به، بل وصل الأمر بها الى أن تكتبت سنة 1999، مقالاً فضائحياً، في صحيفة (فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ) دعت فيه أستاذها (في السياسة) كول، الذي كان ينظر إليه الألمان كبطل وحد البلاد، إلى الاستقالة (على خلفية فضيحة فساد لفت حينئذ الحزب ذاته).

ميركل ذاتها، التي يٌلقبها اللاجئين السوريين بـ (ماما ميركل) دعمت كل أعداء سورية، خلال الحرب منذ عام 2011 وحتى يومنا هذا.

في السنة ذاتها قادت المفاوضات بشأن أزمة ديون اليونان، حين أبدت موقفاً متصلباً دفع أثينا إلى شفير الإفلاس، وأثار مشاعر عداء شديد لها من قبل اليسار الأوربي وخاصة الشعب اليوناني.

سياساتها في معالجة الأزمات الخمس التي واجهتها خلال ستة عشر عاماً، من حكمها، أوصلت الاقتصاد الألماني إلى شفير الهاوية.

اليوم أظهرت استطلاعات الرأي في ألمانيا أن حوالي 67 في المئة من الألمان مع حل الحكومة والدعوة لانتخابات مُبكرة. الغليان في الشارع الألماني يزداد، وخاصة ضمن الطبقات الوسطى، فهل ستعود ألمانيا لتكون (رجل أوربا المريض) أم ستكون هناك قيامة اقتصادية تعيد إلى عملاق الصناعة العالمي مجده؟

مَن يعِش يرَ!

العدد 1132 - 13/11/2024