التغيير قلب المعادلة.. والكرة في ملعب الديمقراطيين
د. نهلة الخطيب:
تمتاز الانتخابات الأمريكية الحالية بالتنافس الحادّ بين طرفي المعادلة السياسية: الحزب الديمقراطي، والحزب الجمهوري، بعد التقارب الشديد، إذ يحظى ترامب وهاريس بالشعبية ذاتها في استطلاعات الرأي، مما يعني أن نتائج انتخابات 2024 قد تكون متقاربة، وفي ظل هذا المناخ المتوتر فإن المخاوف من انقسام في المجتمع الأمريكي خطيرة جداً، وستجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تدفع فاتورة أزمات النظام السياسي الذي يعاني من أزمة زعامات وقادة ملهمين بدأت من ترامب واستمرّت مع بايدن ثم هاريس، وصراعات، وحروب في كل مكان.
لم يحظَ بايدن بليلةٍ رائعة في المناظرة التاريخية بينه وبين منافسه ترامب، الشهر الماضي، فكانت تلك الليلة نهاية بايدن، بعد أن أطلق رصاصة الرحمة السياسية على نفسه، وتراجع عن خوض السباق الانتخابي، وإلا كان سيدوسه ترامب، ورشّح نائبته كاميلا هاريس مُقِرّاً (بالحاجة إلى الأصوات الشابّة والجديدة)، فكانت ولادة جديدة للديمقراطيين، استعادوا بها ثقتهم بأنفسهم وحزبهم مع انسحاب بايدن، بعد أن كان مؤتمرهم مهدّداً بالانقسام، وحتى بالفشل، منذ أن فقد الكثير من الديمقراطيين الثقة بجو بايدن وقدرته على الفوز ضد ترامب، لم يبالوا بانتقاد خصومهم لهم بأن التغيير ليس ديمقراطياً، وبالنسبة لهم هو شأن داخلي، وتجاوزوه.
مع هذا التغيير قُلبت المعادلة وانتقل القلق والخوف إلى الحزب الجمهوري، والكرة صارت في ملعب الديمقراطيين حتى نشهد جديداً من ترامب وحزبه.
هاريس مرشّحة الحزب الديمقراطي تملك تصوّراً لإيجاد حلّ للوضع المعقّد في العالم، وفي غزة، لنتساءل: لماذا لا تفعلين ذلك الآن وأنتِ في خضمّ إدارة أمريكية ولايتها ما تزال متواصلة، بدلاً من توظيف الموضوع في حملة انتخابية تطمحين من خلالها الوصول إلى سدّة الرئاسة؟!
من تكون هاريس؟
كاميلا هاريس هي أول امرأة زنجية تُنتخب لمنصب نائب الرئيس الأمريكي، ولطالما سعت للرئاسة، ولكن التقاليد داخل الحزب الديمقراطي تقتضي أنه إذا أبدى الرئيس نيّته بالترشح بات على الجميع الالتفاف حوله، لم تخُض أيّ معركة انتخابية تمهيدية، وتُوّجت مرشّحة للديمقراطيين، وربما ستكون الوريثة الديمقراطية الأولى لهذا المنصب في تاريخ أمريكا، وينظر إليها كشبيهه لأوباما، مدعومة بشدة من (إيباك)، أليست هي من عارضت بشدّة إدانة الأمم المتحدة لإسرائيل؟! وهي تعارض أيضاً تحقيق محكمة الجنايات الدولية بشأن جرائم حرب محتملة ضد الفلسطينيين، وتفخر بارتباطها الشديد بإسرائيل، برغم أنها أقرب إلى التقدميين في حزبها منها إلى بايدن، فمن المرجّح أن تتابع نهج بايدن في كلّ الملفات الخارجية، بل نهج حزبها، الذي تحدق به الأزمات من كل حدب وصوب، فالحزب الديمقراطي يواجه تحدّياتٍ كبيرة داخلية وخارجية، بتراجع الأوضاع الاقتصادية الداخلية وارتفاع الأسعار، وعجزه عن كبح جماح التضخم والحدود والهجرة غير الشرعية، وتزايد التصعيد في الشرق الأوربي، والشرق الآسيوي والشرق الأوسط، العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا التي أثّرت تأثيراً كبيراً على ارتفاع أسعار الغاز الذي لن يتغير في المستقبل القريب، والتوغل الأوكراني في الأراضي الروسية بدعم وسلاح أمريكي معلن، والخطر الروسي القادم إلى أوربا. وللتوصل إلى أيّ تسوية، قد تحتاج إلى حرب كبرى بتداعيات كارثية على سائر القوى، قد تصل إلى استخدام النووي التكتيكي، هذا ما جعل ترامب يصرح (إننا على أبواب حرب عالمية ثالثة).
غزّة حاضرة
الحرب في غزة كانت حاضرة في المؤتمر الانتخابي الديمقراطي، وهاريس تحدثت بخطابها في المؤتمر عن التوتر في الشرق الأوسط وفي غزة، تكلّمت بنوع من الضبابية دون تحديد موقف حاسم أو تحديد إطار للحلّ، وبينما تكفّلت بدعم إسرائيل للدفاع عن نفسها، اعترفت بمعاناة الفلسطينيين في غزة (فحجم المعاناة يفطر القلب)، وبضرورة التوصل إلى هدنة في غزة، واعترفت بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، دون أن تتطرّق إلى حلّ الدولتين.
لا نتوقع أن تكون هاريس أقلّ اهتماماً بإسرائيل من أسلافها، ولكنها بالتأكيد أكثر اهتماماً بأمريكا، فهي تعي مدى التداعيات الكارثية للوضع في الشرق الأوسط، فخسارة إسرائيل تعني خسارة الشرق الأوسط.
بايدن في خطاب الوداع في المؤتمر الذي تمنّاه بعد ولايته الثانية، كان حاضر الذهن طليق اللسان دون لعثمة، ولو كان أداؤه في المناظرة قبل شهر كما في الخطاب، غير أننا نتحدث عن بايدن كمرشح للحزب بدلاً من هاريس، ولكن مناظرته كانت الضربة القاضية على رأسه، وقضت على مسيرته السياسية التي استمرت ما يقارب نصف قرن، وتحوّل بايدن إلى رئيس بدبلوماسية البطة العرجاء حتى انتهاء مدّته الرئاسية، فقد تعرّض لدونالد ترامب (مرشح الحزب الجمهوري)، وهو يراه ديكتاتوراً وخطراً على الديمقراطية، ومصدر تهديد لاستقرار البلاد، بعد تصريحاته بأنه (سيكون حمّام دم في حال فشله في الفوز)، واستذكر توجّهاته المعادية للتنوع العرقي والثقافي والحريات الشخصية والجنسية. ولم يسلم ترامب من هاريس، فقد وصفته بأنه (عدوّ للمبادئ الأمريكية التقليدية)، وذكّرت بالفوضى والكارثة عند محاولته الانقلاب على الانتخابات واقتحام مبنى الكونغرس عام 2021.
لا فرق بينهما
يفخر الحزب الديمقراطي بأنه وفّر لإسرائيل الحماية والدعم بالمال والسلاح لإتمام جرائمه في غزة، إبادة وتجويع وقتل أطفال ونساء، وتعهّد بمزيد من البلطجة والدعم، والتطبيع آتٍ آتٍ، والحصار باقٍ، لم يتبنَّ الحزب وقف الحرب أو على الأقل وقف الإمداد العسكري، رغم المطالبات الكثيرة والاحتجاجات على سياسة بايدن وهاريس في حرب غزة، ودعم إسرائيل على مدى أيام المؤتمر، ورفض إعطاء صوت فلسطيني بكلمة داخل المؤتمر. لم يكن بإمكان بايدن تجاهل أصوات المحتجّين قائلاً: (سنواصل العمل على إنهاء الحرب في غزة)، وإلى الآن هو متعلق بأمل أن ينجز شيئاً بالتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب، لم ولن يستطيع، والأمر ليس بهذه البساطة!! لكننا نعلم أن لعبة الحرب ستستمر حتى ينتصر طرف ويرسم معادلة جديدة للعالم، ستلعبها الإدارة الجديدة وستحدّد موقفها من حروب المنطقة وتحرّكها للتفاوض.
الآن رجل وامرأة وجهاً لوجه، دونالد ترامب و كاميلا هاريس، من الصعب التنبّؤ بفوز أيٍّ من المرشّحين، فقد تطرأ أحداث وتطورات تقلب المشهد مرة ثانية، كلاهما خطر على العالم، ما دامت أمريكا تعيش حالة سقوط أخلاقي، وهي من تدير موت الآخرين، والآتي خطير جداً، فالحكاية الأمريكية نفسها سواء كانت إدارتها جمهورية أو ديمقراطية، ولا فرق بينهما إلا بالأسلوب والاستراتيجية، ما دامت سياستها مدفوعة بشكل أساسي باعتبارات الأمن القومي الملموسة، والتي ستكون دائماً هي العامل الحاسم والمحدد لهذه السياسات، الفوز والخسارة يعتمد على من هو أشدّهم ولاءً لإسرائيل في المرحلة المقبلة الأشدّ خطورة منذ نهاية الحرب الباردة، (والأكثر غموضاً في التاريخ) كما يصفها الأوربيون.
نحن لا يعنينا من يكون الإمبراطور، سواء هاريس أو ترامب، لا فرق بين هاريس وهي نائبة لبايدن عرّاب المحرقة وإبادة الفلسطينيين عسكرياً في غزة، وترامب عرّاب لإبادتهم سياسياً بصفقة القرن. مع يقيني أن عملية طوفان الأقصى هزّت أمريكا كما هزّت إسرائيل.