مؤسسة الطيران العربية السورية.. إلى أين؟!

(النور):

لم تُخفِ حكوماتنا المتعاقبة، منذ ما قبل الأزمة حتى اليوم، توجّهها نحو تصفية قطاع الدولة بمختلف فعالياته الصناعية والزراعية والخدمية، ومرافقها العامة، وسنّت التشريعات الهادفة قولاً إلى التعددية الاقتصادية، والهادفة فعلياً إلى تصفية ملكية الدولة وإدارتها لقطاعها المتعدد، وكنا نسأل في الماضي، ونسأل اليوم: في الوقت الذي يجري فيه تهميش القطاع العام الصناعي، والإحجام عن تطويره وزيادة الاستثمارات في منشآته، وتجديد إداراته المترهلة.. وربما الفاسدة، وفي الوقت الذي تتراجع فيه الاعتمادات المخصصة لتطوير وتحديث المرافق العامة ومشاريع البنية التحتية، فما الذي تعنيه التشاركية بين شريكين غير متكافئين إلا الهيمنة والابتلاع؟!

في ملخص يكاد لا يتجاوز صفحةً واحدة، قدمت مؤسسة الطيران السورية عرضاً للعقد الذي وقع مع شركة مجهولة في نطاق شركات الأعمال في سورية، ومع ذلك لم تقدّم المؤسسة تبريراً مقبولاً للّجوء إلى هذا الأسلوب في إحياء هذه الشركة العامة العريقة التي كانت من أعرق شركات الطيران العربية، بل اكتفت بذِكر المبالغ الذي ستنفقها الشركة المتعاقدة لزيادة عدد الطائرات والتجهيزات الفنية والمطابخ، ومنحها حقّ إدارة العمليات الجوية والأرضية، وذلك مقابل الحصول على 25% من الإيرادات السنوية. ولم توضح مؤسسة الطيران السورية العديد من المسائل المتعلقة بمبررات اللجوء إلى التخلي عن إدارتها واستثمارها لأهم مرفق في البلاد:

1-كم العدد الحالي للطائرات العاملة؟

2-كم عدد الطائرات المتوقفة.. ولماذا؟

3-كم تبلغ تكاليف إصلاح الطائرات المتوقفة؟

4- كم تبلغ أرباح (السورية) اليوم؟

5-ما الجدوى الاقتصادية لقيام (السورية) بعملية إصلاح الطائرات المتوقفة، أو شراء طائرات جديدة، والأرباح التي ستحققها، قياسا للأرباح التي تحصل عليها من الشركة المتعاقد معها؟

6-ألا يمكن للحكومة تأمين قرض من إحدى الدول الصديقة لتمويل إنهاض شركة الطيران السورية؟!

7-هل الاستسلام لذريعة (تراجع الايرادات العامة) يعني تخلّي الحكومات عن ممتلكات الدولة- الشعب؟! وكيف تزيد الحكومة من إيراداتها إذا لم تضخ الاستثمارات في قطاعاتها المنتجة؟!

8- هل تم الاعلان عن طلب العروض (علنياً)؟ وما هو عدد الشركات التي تقدمت بعروضها؟؟؟

لقد تسببت الأزمة ومحاولة الغزو الارهابي بأضرار بالغة لقطاعات الإنتاج.. والرساميل.. والمصارف.. والاستثمارات.. والاستهلاك.. والادخار، أي بكلمة واحدة تراجعت جميع المؤشرات الاقتصادية، وخاصة في ظل الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها على سورية. أما في الشق الاجتماعي، فكان أبرز التداعيات ارتفاع نسب الفقر والبطالة والهجرة الداخلية والخارجية، وما أدت إليه من معاناة شديدة مستمرة، أفقرت المواطنين السوريين.

لذلك نعتقد أن جوهر مبدأ التشاركية في الوقت الراهن عليه أن يتسع لمضامين أوسع، تأخذ بالحسبان لا المشاركة بين الدولة والقطاع الخاص المنتج في هذا المصنع أوذاك.. أو تطوير حقل نفطي أو غازي في هذه المحافظة أو تلك، بل يتسع ليشمل شراكة حقيقية من أجل إعادة إنهاض الاقتصاد السوري وقطاعاته المنتجة، وخاصة الصناعة والزراعة وتطوير البنية التحتية، وإعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة على الصعيد الوطني، وذلك ضمن خطة الدولة المركزية من أجل إعادة الإعمار، دون التخلي عن ملكية الدولة وادارتها لقطاعها المتعدد.

لماذا الصناعة والزراعة؟

لأنهما بداية عماد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والنشاطان الرئيسيان لفئات المجتمع السوري المختلفة، ويستأثران بالنسبة العظمى من اليد العاملة السورية، ويساهمان بالحصة الكبرى من الناتج المحلي الإجمالي، وتعتمد على إنتاجهما قطاعات التصدير السورية وشبكة واسعة من النشاطات الحرفية، كذلك فهما يشكلان السند الرئيسي لإيرادات الخزينة العامة.

في العقد الماضي تبين بشكل جليّ أن ملكية الدولة، وإدارتها للقطاع العام الاقتصادي والمرافق الحيوية، كالكهرباء والمياه والموانئ والمطارات والطرق، كانت محط أنظار بعض مهندسي الاقتصاد السوري الذين يعتقدون أن هذه الملكية، وتلك الإدارة تقف عائقاً أمام سيادة السوق.. وقوانين السوق، وشاركهم في ذلك فئات من المستثمرين المحليين والأجانب الذين رأوا في قطاع الدولة هذا حلماً للوصول إلى الجمهور الأوسع.. والربح الأعلى.. والسيطرة المطلقة!

لم يقتصر الأمر في التصويب على ملكية الدولة على الجانب المحلي، بل قدمت المؤسسات والهيئات الدولية نصائحها بضرورة تفكيك هذه الملكية، فها هو ذا ممثل الاتحاد الأوربي في سورية يصرح قبل الأزمة: (يؤمن الاتحاد الأوربي بأن عملية الإصلاح التي تبنتها سورية مهمة وفي الاتجاه الصحيح، وكفيلة بفتح الأبواب أمام اندماج سورية الكامل في الاقتصاد العالمي. وغني عن القول أن الخصخصة وتفكيك الاحتكارات العامة هما أحد متطلبات هذا الاندماج).

ورغم نمو حجم القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية، بقيت العيون موجهة نحو قطاع الدولة المتعدد الجوانب، وبدا أن المطلوب هو التخلص من احتكار ملكية الدولة وإدارتها لهذا القطاع. واقتنصوا بعض العقود لتطوير بعض المرافق وإدارتها، كمحطتي الحاويات في ميناءَيْ اللاذقية وطرطوس، وكانت النتائج هزيلة.. بل مضرّة.

التشاركية بين الدولة والقطاع الخاص المنتج لتنفيذ خطط الحكومة في إعادة إعمار ما خربته تداعيات الأزمة السورية، وتطوير القطاعات المنتجة، خاصة الصناعة والزراعة، ضرورة تمليها الظروف السورية.. ومبدأ التعددية الاقتصادية. أما التشاركية بهدف الخصخصة.. وابتلاع القطاع العام والمرافق الحكومية كما خطط مدبرو الاقتصاد في العقد الماضي، وكما يخطط مدبرو الاقتصاد اليوم، فنراها انسياقاً وراء المخططات التي رسمت في الماضي، وترسم اليوم لأخذ سورية من الداخل.. من بوابة إثارة غضب جماهير الشعب السوري، فبذريعة تراجع الإيرادات العامة لم تكن مؤسسة الطيران السورية الأولى..ولن تكون الأخيرة في تخلي الدولة عن دورها في الحياة الاقتصادية، وشيئاً فشيئاً سيؤدي ذلك إلى تفرد القطاع الخاص بالقرار الاقتصادي.. وربما السياسي. وحينئذٍ.. سلاماً على التعددية الاقتصادية التي أقرّها الدستور السوري.

العدد 1120 - 21/8/2024