روسيا والغرب.. المعادلة البسيطة
مالك عجيب:
لا تزال ردود الأفعال تتوالى على حديث الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون حول إمكانية إرسال جنودٍ فرنسيين لمؤازرة الجيش الأوكراني، في مواجهة التقدّم المتسارع للجيش الروسي. وبالرغم من أن معظم المحللين والمتابعين يرون في هذا الموقف الخارج عن السياق التقليدي للسياسة الفرنسية مجرد مناورةٍ استعراضيةٍ تهدف إلى ردّ بعض الاعتبار للسياسة الفرنسية إزاء الخصوم والحلفاء على حدّ سواء، وعلى وجه الخصوص منهم الحليف الألماني الذي لا ينفكّ يسحب البساط شيئاً فشيئاً من تحت أقدام الفرنسيين على المستويين الأوربي والأطلسي، إلا أن تجارب التاريخ ولاسيما منها ما يتعلق بالصدام الدوريّ بين روسيا والغرب تُعلّمنا أن تجاهل دلالات مثل هذا الخطاب التعبوي قد ينطوي أحياناً على محاذير بالغة الخطورة. صحيح أن اعتبارات المنطق والظروف الموضوعية وموازين القوى الحالية تدعونا إلى عدم أخذ هذه التصريحات على محمل الجدّ، ولكن الصحيح أيضاً أن العديد من الصراعات الكبرى عبر التاريخ قد اندلعت وفق اعتبارات منافية لقواعد المنطق والموضوعية وحتى العقل أحياناً، وقصة اندلاع الحرب العالمية الأولى إثر حادثة اغتيال الأرشيدوق النمساوي مثال نموذجي على التداعي المأساوي الذي يمكن أن تتخذه الأحداث، كما أن عملية بارباروسا التي استهلت بها المانيا النازية حربها على روسيا مثال آخر على الثمن الفادح الذي يمكن أن تتكبده البشرية بسبب خطأ في الحسابات قد يرتكبه صانع قرار خيّل إليه أن القفز فوق اعتبارات المنطق يُعدّ ضرباً من العبقرية والعظمة، ولا يزال الباحثون والمؤرخون حتى اليوم يجادلون في أسباب ودوافع ذاك القرار الأرعن.. هل هو التنافر الأيديولوجي مابين العقيدتين النازية والشيوعية؟ أم هي الحاجة إلى الوقود اللازم للآلة العسكرية النازية؟ أم هي قضية ثأر تاريخي؟ وهذا الافتراض الأخير هو الأكثر مدعاةً للقلق باعتباره الافتراض الأكثر جاذبية لذوي الرؤوس الحامية الذين يتخذون مثل تلك القرارات اللاعقلانية، والمثير للقلق أيضاً هو ذاك الإصرار التاريخي الغريب لدى قادة الغرب الأوربي على صدم رؤوسهم بالجدار الروسي، والأغرب منه عجز القوى الغربية عموماً بكل ما تملك من إرث حضاري ومن تطور علمي وتقني ومراكز أبحاث تخصصية تعجّ بجيوشٍ من المختصين الأكاديميين عن استخلاص الِعبر والدروس من تاريخ الصدام مع روسيا، فالسؤال الذي لا بدّ يتبادر إلى ذهن كل قارئ لتاريخ الصدام المتكرر ما بين دول أوربا الغربية وروسيا على مدى قرونٍ عدةٍ مضت هو: ما سرّ عجز هؤلاء عن استيعاب هذه المعادلة البسيطة المؤلفة من حدّين معلومين؟ قرناً بعد قرنٍ وجيلاً إثر جيل لا ينفكّ منظرو وصانعو السياسات في غرب أوربا يقعون في الحفرة ذاتها، منذ بدايات القرن الثامن عشر عندما راود شارل الثاني عشر، ملك السويد الذي كتب فولتير تاريخه الحافل، حلمُ السيطرة على روسيا، فانتهى به الأمر مجرد لاجئ طريد لدى السلطان العثماني عدو أوربا الأكبر آنذاك، ثم بعد نحو قرنٍ من الزمان كانت روسيا على موعدٍ مع حالمٍ آخر كان هذه المرة نابليون العظيم الذي ظنّ أنه بدخوله موسكو سيعيد رسم خرائط أوربا والعالم، فإذا بجيشه العظيم يندحر مجرراً أذيال الهزيمة بعد أن أحالته العاصمة العريقة الى شرذمةٍ من المتشردين واللصوص كما وصفه شاهد عيان موثوق هو ليون تولستوي في روايته الأشهر الحرب والسلام. ثم كانت للحكاية تلك الخاتمة التي لا يحب الكثيرون اليوم سماعها -ومنهم ماكرون حتماً- والمتمثلة بدخول الجيش الروسي مع حلفائه باريس في ربيع عام 1814م بعد أقل من عامين على اندحار الجيش الفرنسي عن الأراضي الروسية، ثم كانت المنازلة الأكثر مأساويةً والأوفى عبرةً بين الغرب وروسيا في الحرب العالمية الثانية، عندما راود هتلر الحلم النابليوني ذاته، فكان أن أعلنت أسوار ستالينغراد بداية سلسلة هزائمه التي انتهت بسقوط عاصمته برلين في قبضة رجال الجيش الأحمر.
اللافت للنظر أن القوة الغربية الوحيدة المؤهلة لمواجهة روسيا حالياً وهي الولايات المتحدة الامريكية تبدي اليوم من الحكمة التي لطالما افتقدها أصدقاؤها على الضفة الأخرى من الأطلسي ما جنّبها الوقوع في فخ الصدام المباشر مع العملاق الروسي حتى الآن.
أثمان باهظة دفعها الشعب الروسي على مدى أجيالٍ حتى أمكنه أن يكرّس تلك المسلّمة التاريخية القائلة بأن روسيا لا تبدأ الحروب ولكنها تنهيها، والأهم منها تلك المسلّمة الأبلغ والأشهر القائلة إن روسيا بلد عصيّ على الهزيمة الكاملة.
اليوم.. ها هم أولاء حفدة شارل الثاني عشر يستقوون بحلف شمال الأطلسي على روسيا، وها هم حفدة هتلر يرسلون دباباتهم ومدافعهم إلى حدود روسيا، وها هو ذا حفيد نابليون يرغي ويزبد ويتوعد روسيا، فهل بإمكاننا الركون إلى المنطق والتعويل على حكمة هؤلاء وأمثالهم يا ترى؟ المنطق والواقع يقول: نعم.. ولكن التاريخ ويا للأسف يقول: لا!