
جو بايدن… بين سندان ومطرقة
د. نهلة الخطيب:
شهدنا مؤخراً تحولات في توجهات الرأي العام الغربي والأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، وهي لم تنعكس بشكل ملحوظ على توجهات القيادة السياسية ولا حتى على الإعلام في هذه الدول التي أظهرت انحيازاً غير مسبوق لإسرائيل، وهذا ليس بجديد، بالتضليل الإعلامي والدعم العسكري اللامتناهي وتبرير جرائمه ضد الأطفال والنساء تحت مسمى (محاربة الإرهاب)، المتمثل بالمقاومة الفلسطينية، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الكيان الصهيوني مشروع غربي أمريكي يدعمونه بالمال والسلاح ويحمونه كجزء من أمنهم القومي. ومع بدء الحرب على غزة وسياسة الأرض المحروقة التي يتبعها نتنياهو في غزة ومحاولات التهجير القسري على غرار نكبة 48 و67، وفي عصر العولمة وتزايد دور وسائل التواصل الاجتماعي، جرى تداول صور ومقاطع فيديو من نشطاء على الأرض بشكل مباشر تكشف الحقيقة والانحياز ووحشية إسرائيل ضد الأطفال والنساء والمشافي وأماكن اللجوء وحرمانهم من الماء والدواء والغذاء أو حتى هدنة إنسانية ووقف لإطلاق النار، مما أدى الى انقسام الرأي العام الغربي حول القضية الفلسطينية وتناقضات داخل المجتمعات الغربية والأمريكية، وبدأ ظهور واضح لأصوات تندد بإسرائيل وتدين تواطؤ حكوماتهم وأنظمتهم معها، وبدأ يتكون رأي عام في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية أكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني وازدادت الفجوات بين القيادة السياسة والإعلام الغربي من جهة والرأي العام من جهة أخرى، الأمر الذي وضع القضية الفلسطينية في الصدارة مع ازدياد عدد المنتقدين لهذه السياسات المنحازة بالمطلق لإسرائيل وتزايد حجم المظاهرات المنددة بالعدوان الاسرائيلي على غزة وترديد هتافات وحمل لافتات تفضح إسرائيل وحلفاءها المتلطخة أيديهم بدماء الأطفال، مما يعكس تحولات عميقة على مستوى الوعي عند الشعوب الغربية والأمريكية وخاصة جيل الشباب، ويفتح فرصاً للضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر عدالة مع القضية الفلسطينية، ولو افترضنا أنها أنظمة ديمقراطية فإلى أي مدى ستؤثر التحولات في الرأي العام الأمريكي على صنع القرار السياسي وعلى الانتخابات الأمريكية وخاصة أننا على أبوابها؟
لا تمثل قضايا السياسة الخارجية والشرق الأوسط خاصة أهمية كبيرة بالنسبة للناخبين الأمريكيين، ومع ذلك يميلون تاريخياً الى دعم المرشحين الذين أظهروا دعماً قوياً لإسرائيل، وخاصة أنها تحظى بدعم كبير من كل الحكومات باعتبارها وفق منظورهم (دولة ديمقراطية) في منطقة الشرق الأوسط ترعى المصالح الاستراتيجية الأمريكية. ويؤيد عدد كبير منهم دعم حكومتهم لإسرائيل في الحرب الدائرة حالياً على قطاع غزة، في الوقت الذي بدأ ظهور عدد من الأصوات المنتقدة لطريقة تعامل جو بايدن مع الصراع وتواطؤه في الإبادة الجماعية في غزة وهذا ما يشكل مصدر قلق له على مستقبله الرئاسي، وخاصة أنه أبدى نيته بالترشح للانتخابات القادمة التي ستجرى بعد عام من الآن، مع استمرار الانتقادات الموجّهة الى عمره الذي تجاوز 80 عاماً إلى جانب إدارته السيئة للاقتصاد وهو الأهم بالنسبة للناخبين، وسياسته الخارجية بإدارة الحرب في أوكرانيا، فقد تدنت قاعدته الشعبية من 59% عام 2020 الى 17% الآن، ووفقاً لاستطلاعات رأي أجرتها صحيفة نيويورك تايمز أظهرت تخلفه عن منافسه المتوقع دونالد ترامب في خمس ولايات رئيسية بين الناخبين المسجلين وخاصة بين الناخبين الشباب والمسلمين والتقدميين، فضلاً عن الشقاق في أروقة وزارة الخارجية إزاء السياسة الأمريكية في غزة والدعم المطلق لإسرائيل، والانقسام الحاد في صفوف الديمقراطيين في الكونغرس بين مؤيد لإسرائيل ومؤيد للفلسطينيين الذين يُقتلون في قطاع غزة بسبب موقف بايدن، في الوقت نفسه بايدن يخضع لضغوط كبيرة من اللوبي الصهيوني، وهو ما انعكس على موقفه اتجاه غزة وإشرافه شخصياً على سير العملية العسكرية التي تشنها اسرائيل على قطاع غزة وكأنها الولاية الـ51 في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الصهيوني المتفاخر بولائه لإسرائيل، فلن تكون له فرصة أن يتقدم للانتخابات القادمة إن لم يدعم إسرائيل بكل إمكانياته وإن لم يحضر مؤتمر إيباك في نيسان القادم 2024.
وتعتبر ايباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية) من أهم المنظمات التابعة للوبي الصهيوني، ويحضر ممثل لجنة ايباك كل اجتماع مفتوح في الكونغرس الأمريكي، ويتواصل مع الجميع ويمنحهم وظائف وأموالاً وهدايا ليحكم السيطرة وتمرير ما يدعم أهدافهم ومصالحهم وإسقاط ما لا يخدمها، وفي الاجتماعات المغلقة يوظفون من يطلعهم على سجل الكونغرس بانتظام، وكل ما يدعو للقلق يستتبع زيارات من قبل اللجنة، وهنا يتضح مدى تأثير اللوبي على قرارات الكونغرس، ويعقد مؤتمر ايباك عادة كل عام في نيسان، وأيٌّ من المرشحين الذين لا يحضرون هذا المؤتمر لن تكون له فرصة أن يكون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا السبب يتسابق كل رؤساء أمريكا على إظهار ولائهم وتفانيهم في حب إسرائيل.
اللوبي الصهيوني هو مجموعة من الأفراد والمؤسسات قد يختلفون على عدة مسائل سياسية ولكنهم موحدون لدعم اسرائيل، ليس لها مرجعية أو قيادة مركزية، وليس بالضرورة أن تكون يهودياً لتكون منهم؛ يكفي أنك صهيوني مؤيد وداعم للحركة الصهيونية، وهذا ما يدخل ضمن إطار الصهاينة المسيحيين الذين صرح بايدن بأنه ينتمي لهم، ويعود ذلك إلى الخلفية الدينية والتشابه الكبير بين العقيدة اليهودية التلمودية والبروتستانتية لغالبية الشعب الأمريكي، التي يتبنّى أتباعها فكرة إقامة كيان يهودي في فلسطين تمهيداً للعودة الثانية للمسيح، وهذا ما أكده إسحاق رابين عندما قال: (أعتقد أن ارتباط الشعب الأمريكي وإدارته بإسرائيل يفوق وزن الجالية اليهودية ونفوذها).
فاللوبي الصهيوني يدعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري ويدعم المستقلين ولاسيما في الحملات الانتخابية لأعضاء مجلس الشيوخ والنواب وأغلب السياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية، ويحشد الدعم المادي واللوجستي ويسهّل وصولهم إلى المناصب الكبرى، ويمول نحو 60% من تكاليف الحملات الانتخابية بالعموم، فهي جماعات الضغط الأقوى والأغنى التي تؤثر على مؤسسات صنع القرار الأمريكي (الكونغرس والبيت الأبيض ووزارة الدفاع وCIA) في الداخل والخارج بما يتوافق مع مصالحها وأهدافها، وهي أحد موجّهي السياسة الأمريكية الخارجية اتجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما يعكس الانحياز للكيان الصهيوني طيلة العقود السابقة، فكما للوبي تأثير كبير جداً على الإدارة الأمريكية والسياسيين وصانعي القرار من التشريعيين في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن له تأثيراً على الاقتصاد والمال والإعلام، ويمتلك وسائل إعلام وتكنولوجيا متقدمة قادرة على تشكيل الرأي العام الأمريكي وفرض وجهة النظر والسردية الإسرائيلية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتكريسها حقيقة لا تقبل الشك.
لا أحد يكترث بأطفالنا حين تتحول إلى أشلاء ومنازلنا حين تتحول إلى ركام، ولم تكتفِ البربرية الإسرائيلية بسياسات القتل والتدمير، فأضافت إلى ذلك، وبرعاية أمريكية: الترحيل والإبادة، لكنها الضربة القاضية على رأس جو بايدن في الانتخابات القادمة، فمثلما اهتزّت إسرائيل بطوفان الأقصى اهتزّت أمريكا. روبرت كاغال قال: (ثمة شيء لا نفهمه هناك). وزراء سابقون للدفاع والخارجية ومسؤولون سابقون في مجلس الأمن القومي يحذرون من الوحول اللاهوتية في الشرق الأوسط، والمتغيرات الخجولة في الموقف الأمريكي من الوحشية الإسرائيلية ماهي إلا استشعار لهذا الخطر.