صورٌ من بلادي

إيناس ونوس:

_ سألتني ابنتي ونحن في الطَّريق: (ماما، ليش ما عطيتي هي التيتة اللي عم تطلب مصاري، ولا عطيتي هديك التيتة التانية؟؟!).

(وين ولاد هاد الزلمة الكبير؟ وليش تاركينو يشحد مصاري من الناس؟!).

_ قالت لي صديقتي إنَّها ليلة البارحة لم تستطع أن تنام من منظر العجوز الذي رأته في إحدى صالات وزارة التِّجارة يبكي لأنَّ النُّقود التي بحوزته لا تكفي لشراء ما يسدُّ رمقه وزوجته التي تنتظره وكلَّها أملٌ بوجبةٍ شهيَّة!!!

_ فاجأتنا امرأةٌ تتجاوز السَّبعين من عمرها بوجودها في المدرسة وهي تطلب أن نجد لها عملاً يساعدها على إعالة أحفادها ويبقيها قريبةً منهم (وهم طلَّابٌ في مدرستنا) ذلك لأنَّهم بلا أهل وهي تقوم على رعايتهم.

_ عادت ابنتي لتسألني: (ليش ما بتخليني ساعد هي الختيارة وأحمل عنها الغراض؟؟ بالمدرسة بيعلمونا أنو لازم نساعد الكبار وما نتركن لحالن!).

_ في حين أنَّ أحد الأصدقاء روى لي منذ بعض الوقت عن رجلٍ ثمانينيٍّ وقف يصرخ في وجه أولادٍ كانوا يتلفَّظون بكلماتٍ نابية وغير أخلاقية، فهاجموه بشتائمهم وهم يشيرون إليه بأصابعهم الوسطى، فوقف مدهوشاً والغصَّة تكاد تخنقه غير قادرٍ على الكلام، رافضاً تصديق ما رآه، مستعجباً أين ولَّت الأخلاق، وكيف اغتيلت الطُّفولة!

_ صديقتي ذاتها عادت لتسرد لي كيف أنَّها حملت كيس القمامة من بيتها لمسافةٍ طويلةٍ، بينما الحاوية لا تبعد عن مكان سكنها إلَّا بضعة أمتار، لمجرَّد أنَّها رأت بداخلها عجوزاً تفتح الأكياس وتبحث عمَّا يؤكل وعمَّا يمكنه أن يباع كي تمتلك بعض المال، فخجلت من نفسها.. ومن كيس القمامة الذي بيدها!

هذه بعض الصُّور والأمثلة عن مسنِّي بلادي، أولئك الأشخاص الذين من الأجدر بهم أن يكونوا اليوم في مكانٍ يليق بهم وبما ضاع عمرهم كلَّه من أجله، ينعمون بالاسترخاء، بالعلاج، بالتَّنزُّه، باحتضان العائلة ونيل قسطٍ من الرَّاحة في بيتٍ يضمن أبسط مقوِّمات الحياة لمن في مثل سنِّهم، بدلاً من أن يكونوا مشرَّدين متسوِّلين، أو أن يتمَّ استخدامهم من قبل عصاباتٍ منظَّمةٍ كصنَّارة صيدٍ لمن لا يزال في قلبه بعضٌ من الرَّأفة أو لمن لم يسمع بعدُ بالقتل والسَّرقة وعصابات الاتجار بالبشر أو الاغتصاب و …إلخ.

ألم يكفِهم عمرٌ كاملٌ من التَّضحية والتَّربية والعمل، أم أنَّ قدرهم وحده هو المسؤول عن إجبارهم على أن يقوموا بعناية وتربية أحفادهم الذين تخلَّى عنهم أهاليهم لأسبابٍ شتَّى؟؟؟

يمرُّ عليهم الأول من تشرين الأول مثله مثل أيِّ يومٍ آخرَ في العام لا يميِّزه شيءٌ أبداً، فهم بعيدون كلَّ البعد عن تلك المنظَّمات الدَّولية واتفاقياتها ومناسباتها وأعيادها، مثلما هي بعيدةٌ عنهم كلِّياً، ومثلما حكوماتنا بعيدةٌ عنهم مغفلةً العين عنهم، تتركهم يدبِّرون أمورهم بأنفسهم بدلاً من أن تقوم بالبحث عنهم ورعايتهم وتقديم أبسط حقوقهم ولو من باب الشُّكر والاعتراف بأفضالهم وبما قدَّموه على مدى عقودٍ طويلة.

نعم، إنَّ كلَّ تلك الصُّور التي ذكرتها، وتلك التي لم أذكرها، هي صورُ واقعٍ معيشٍ يومياً في مجتمعٍ لا يزال رغم كلِّ هذا التَّقهقر الأخلاقيِّ والقيميِّ والاقتصاديِّ والصِّحيِّ والتَّعليميِّ ينادي بالأخلاق واحترام الكبير وإغاثة الملهوف وتلبية أبناء السَّبيل، فأيُّ مهزلةٍ بتنا نعيشها اليوم!؟ وأمام كلِّ هذا، هل يكفي أن نستذكر اتفاقياتٍ دوليةٍ ومناسباتٍ سنوية؟ أم أنَّ صورةً واحدةً من كلِّ ما ذُكر تكفي لتقول تبَّاً للبشرية جمعاء!

العدد 1104 - 24/4/2024