الميراث

أيمن أبو شعر:

مرت أشهر عديدة على وفاة أبي غسان إبان إطفائه لحريق شب في المصنع الذي يعمل فيه، وكان يمكن أن يؤدي إلى كارثة للحي كله لو لم يمنع وصول النار إلى خزانات المواد الكيماوية ما أسفر عن وفاته، وما زال رجال الحي يترحمون عليه ويذكرون مواقفه النبيلة، وإخلاصه في العمل، ويده النظيفة، وتضحيته لإنقاذ الحي، ومدى الحب والتفاهم بينه وبين أم غسان حتى باتا مثالاً لتشجيع الشباب والشابات على الزواج، وكانوا يرددون: مسكينة أم غسان لم يترك لها شيئاً! وكانت نساء الحي وخاصة العجائز منهن يرددن: نعم كان شهماً، ولكنه ترك لها ثلاثة أطفال، ولم يترك لها ميراثاً، حتى شقتهم الصغيرة لم يستكمل أقساطها، وكان هذا الكلام يصل إليها فلا تعيره أي اهتمام.

ذات يوم زارها رجل في الثلاثين من عمره مع امرأة كبيرة في السن قليلاً تبدو وكأنها أمه، ويبدو من سيارته أنه مسؤول كبير، أو تاجر غني.. وسرعان ما انتشر الخبر كالنار في الهشيم، أم غسان مخطوبة، أم غسان ستتزوج وبعد أسابيع الذكرى السنوية لوفاة زوجها.. وبدأ خيال الثرثارين يجمح ويشطح.. أم سعاد تقول: طبعاً، الخطيب يطمع بالميراث، فقد تبيّن أن أبا غسان ترك ميراثاً هائلاً في بلاد الأجانب!! والحاجّة أم عدنان تستغفر الله وتقول: اللهم لا حسد! نعم، سمعت أن لديه ثروة مذهلة ورثها عن عمه في كندا. وكلٌّ يخترع حكاية لها شواهدها المبتكرة فتنتشر أقاصيص لها أول وليس لها آخر.

استوقفت أم غسان وهي ذاهبة إلى العمل في المصنع جارتُها أم سمير وقالت لها: كل نساء الحي يقولون إن كنزاً هبط عليك من السماء بوفاة عم أبي غسان في كندا! وأن الرجل الذي زارك أبلغك بذلك، هل خطبتك أمه فعلاً؟؟

تأملت أم غسان جارتها طويلاً وهي تعرف أن الذي توفي في كندا رجل فقير من معارف أبي غسان لا أكثر، وكان يتحدث عنه أحياناً ويقول عمي أبو كنان، أو وصلتني رسالة من العم أبي كنان لأنه كان يكبره سناً، ثم ابتسمت وقالت: لا لم يخطبني ولكن صحيح، أبو غسان ترك لي ميراثاً هائلاً لا يقدّر بثمن… كنزاً هائلاً فعلاً، هذه حقيقة، وقد أبلغني الرجل بذلك. لم تعد أم سمير حتى تريد سماع المزيد، فاستأذنت أم غسان وغادرت بسرعة فرحة بما سمعته، طبعا لتكون سباقة بنقل الخبر.

اتسعت ابتسامة أم غسان وهي تتابع السير نحو المصنع وتحدث نفسها وتستعيد شريط الذكريات، فقد أبلغها الزائر أن احتفالاً رسمياً وشعبياً سيقام بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة أبي غسان، وأن قراراً قد اتُّخذ بتسمية الحي باسمه، وإقامة نصب صغير له عند مدخل المصنع تخليداً لبطولته، لأنه ضحى بنفسه لإنقاذ أهالي الحي.

رددت بصوت يكاد يكون مسموعاً: لقد ترك لي أروع ميراث.. ترك لي سمعة أرفع رأسي بها أنا وأولاده في كل مكان: (هذه زوجة البطل الفادي وهؤلاء أولاد البطل) فضلاً عن كنز من الذكريات الجميلة.. هذا هو الميراث الحقيقي، ربما غداً يفهمون!

 

العدد 1102 - 03/4/2024