أمريكا وأفغانستان والتاريخ

د جودة عبد الخالق:

إن من لا يقرأ التاريخ ولا يعي دروسه جيداً، يدفع ثمناً باهظاً. ويكون الثمن مضاعفا لمن لا يقرأ الجغرافيا بعناية. ويبدو أن هذا هو حال الولايات المتحدة الأمريكية. فَمِنْ فَرْطِ غطرسة القوة، أصبحت أشبه بالدولة المارقة. فقد اعتاد الأمريكيون أن يفرضوا قوانينهم على باقي خلق الله. يفعلون ذلك في مجال التغيرات المناخية، وفى قضايا التجارة الدولية، وفي شؤون الصحة العالمية، وفي مجلس الأمن. ورتبوا الأوضاع لصالحهم في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ونسوا، أو جَهِلوا، أن التاريخ له قوانينه التي تسرى على كل الدول- شاءت أم أبت. وأمريكا تأبى، وبالتالي فإنها تتصرف باعتبارها فوق الجميع، بما في ذلك تاريخ البشرية بقوانينه الصارمة! فهل ثمة حماقة أكثر من ذلك؟ وها هي ذي أمريكا قد تصورت أنها ستنجح في أفغانستان فيما فشل فيه الروس، وقبلهم الإنجليز. بل إن الإسكندر الأكبر سبق كل هؤلاء إلى المكان نفسه في القرن الثالث قبل الميلاد. تاريخ أفغانستان وجغرافيتها تقول إنها معبر، وليست مقرّاً.

لقد غَرَزَت أمريكا نفسها في المستنقع الأفغاني. وهي عاجزة الآن عجزاً فاضحاً عن الخروج الآمن من ذلك البلد، الذى يؤكد تاريخه أنه عَصِيّ على الحُكْم. وهي لم تستوعب دروس تاريخها العسكري الحديث؛ خصوصاً حرب فيتنام، التي مُنِيَت فيها بخسارة جسيمة. وتذكرنا مشاهد الخروج الأمريكي المرتبك من كابل حالياً بمشاهد مثيلة للخروج المهين من سايغون عام 1975، بعد الهزيمة القاسية للأمريكيين وحلفائهم الفيتناميين الجنوبيين في حرب فيتنام. وهذا يفرض السؤال: لماذا يتجاهل الأمريكيون التاريخ؟ هناك سببان على الأقل. أولاً، غِواية القوة المفرطة. ففي اللحظة التاريخية الحالية، أمريكا هي صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، ولها الريادة التكنولوجيا في عدة مجالات، وتملك أكبر قوة عسكرية. ثانياً، إن حظ أمريكا من التاريخ متواضع. فهي صاحبة أقصر تاريخ بين مجموعة الدول الكبرى؛ فهي لم تبلغ قرنين ونصف قرن من العمر بعد.

وبتعبير ابن خلدون، فإن الدولة الأمريكية في اللحظة التاريخية الراهنة تعاني بصورة متزايدة من مظاهر خلل واضحة بين مقوماتها الثلاثة: المال والجُنْد والعدل (العدل أساس الملك). وبلغتنا المعاصرة هذا معناه افتقاد التوازن بين العناصر الثلاثة لقوة الدولة: الأساس الاقتصادي الراسخ والقوة العسكرية الفاعلة والعدل للجميع. بعبارة أخرى، فإن عبء الإنفاق على التورط العسكري الأمريكي في الخارج أصبح أكبر من أن يحتمله اقتصادها. فرغم أن الاقتصاد الأمريكي ما زال هو أكبر اقتصاد على مستوى العالم (أقل قليلاً من مجموع ربع الناتج المحلي الإجمالي لكل الدول)، إلا أنه يتراجع بوضوح. ولن يمر وقت طويل حتى تزيح الصين أمريكا عن موقع الصدارة الاقتصادية عالمياً. وبتراجع القوة الاقتصادية لأمريكا، فلا بد أن تتراجع قوتها العسكرية.

وكما أوضح بول كينيدى في كتابه (صعود القوى العظمى وسقوطها)، فإن التمدد الجغرافي المفرط هو أحد أسباب سقوط تلك القوى بسبب عجز مركزها عن السيطرة على أطرافها. وينطبق ذلك على حالة أمريكا الآن؛ إذ يبلغ عدد قواعدها العسكرية الخارجية أكثر من عشرة أمثال ما لدى بريطانيا وفرنسا وروسيا مجتمعين (800 قاعدة مقابل 30). لكن ربما كان العامل الأهم في سقوط أمريكا كقوة عظمى هو الاستقطاب الداخلي نتيجة غياب العدل في المجتمع الأمريكي. فالتفاوت الاقتصادي في أمريكا هو الأكبر بين دول مجموعة السبع (نادي الأغنياء المكون من أمريكا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا وكندا واليابان). وطبقاً للاقتصادي جوزيف ستيجليتز، الأستاذ بجامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، فإن السياسات المطبقة منذ عهد الرئيس ريغان أدت إلى تآكل الطبقة الوسطى وازدياد التفاوت الاقتصادي والاستقطاب الاجتماعي والسياسي. وقد ظهر ذلك بوضوح في الانتخابات الأمريكية الأخيرة.

حكمة اليوم:

وتلك الأيام نداولها بين الناس.

 

* نقلاً عن جريدة (الأهالي) المصرية

العدد 1104 - 24/4/2024