التعاطي مع ظاهرة الفقر

د. أحمد ديركي:

لم يعد الفقر حالة عابرة، أو ظاهرة مجتمعية تخص مجتمعاً بعينه، وإن كان هناك مستويات متفاوتة من الفقر في (أرقى) المجتمعات. وعلى اعتبار أن الفقر ظاهرة اجتماعية يجب (القضاء) عليها، كثرت الدراسات حول هذه الظاهرة المجتمعية وسبل القضاء عليها.

إذا أردنا مقاربة هذه الدراسات علينا قضاء عقود وعقود من السنين لكثرتها ووجهات نظرها، لكن ما يجب فعلاً مقاربته هو على أي أسس نظرية تعتمد هذه الدراسات. فكل دراسة تصدر، بغض النظر عن موضوعها، تعتمد على أسس نظرية، وإن لم تفصح عنها بشكل مباشر هذه الدراسة أو تلك.

هنا تكمن خطورة الدراسات المزيفة والمشوهة للوعي الطبقي، وبخاصة عند صدورها عن مؤسسات مرموقة تتمتع بسمعة (أكاديمية) جيدة أو بسمعة (إنسانية) ممتازة.

بلا أي نوع من المواربة أو النفاق، معظم العالم يعيش تحت ظل نمط إنتاج رأسمالي، ولهذا النمط الإنتاجي خصائصة ومميزاته المولدة لكل ما يتفرع من المستويات السياسية إلى الاقتصادية إلى الاجتماعية. ولو لم تكن هذه المستويات والبنى متناغمة لما أمكن لهذا النمط من أن يوجد. ومن ضمن هذه المستويات هناك ما يعرف بالبعد الإيديولوجي. بُعد يعمل على تشكيل وعي مشوه يدعم النمط القائم، ليبرر الظواهر الاجتماعية التي ولدها نمط الإنتاج الرأسمالي.

ومن أسس نمط الإنتاج الرأسمالي خلق (عدم المساواة)، وتمثل أحد مكوناته الأساسية. ويمكن العودة هنا إلى كثير وكثير من الدراسات حول (عدم المساواة) ومفهومها وأسبابها. ولكن جميعها لا يدخل في جوهر القضية، بل معظم الحلول المقترحة تقوم على أساس (العدالة الضريبية) وإعادة توزيع (الدخل) وأمور أخرى تبتعد عن أنه لا يمكن حل مسألة (عدم المساواة) إلا بتغيير جذر لنمط الإنتاج الرأسمالي. وكون الفقر، كظاهرة مجتمعية، يدخل ضمن مفهوم (عدم المساواة)، لذا لا يمكن القضاء عليه إلا بالقضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي، وجل ما يمكن أن يحدث هو مجرد (تعديلات) في مستويات الدخل تمس الشكل لا الجوهر.

فيكون العمل هنا لا القضاء على الفقر بل (إصلاح) في بنية النظام الرأسمالي من أجل تحسين مستويات عيش الفقراء، وتظهر المسألة وكأن الفقر حالة طبيعية من طبيعة المجتمعات البشرية مثلها مثل حال الأكل والشرب و… ومن يبحث عن القضاء على الفقر يتهم بأنه يبحث عن القضاء على المجتمعات البشرية! وهذا الاتهام شأن بديهي لمنظري الرأسمالية، لأن القضاء على الفقر يؤدي إلى القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي، بمعنى أن القضاء على الفقر يعني ضمناً إلغاء الفوارق الطبقية في المجتمع.

لذا عند قراءة أي دراسة، أو تطبيق أي دراسة، حول تقليص الفقر، يجب البحث أولاً عن الخلفية النظرية القائمة عليها هذه الدراسة، لا التوه في عباراتها (الجميلة) وما تدعيه من أنها دراسة (أكاديمية) و(علمية)؟ و(موضوعية) وما إلى هناك من عبارة تبهر الأبصار، فيعمى البصر عن الخلفية الإيديولوجية لهذه الدراسة أو تلك.

العدد 1104 - 24/4/2024