في الذكرى الــ 151 لولادته.. فلاديمير لينين أشهر ماركسي في القرن العشرين

رشيد غويلب:

قبل 151عاماً في 22 نيسان 1870، ولد القائد الثوري والمنظر الماركسي الأكثر شهرة في القرن العشرين فلاديمير إيليتش أوليانوف لينين. ولد في سمبريسك الروسية على نهر الفولغا، لعائلة ميسورة، وكان في سن السابعة عشرة حين التحق بحلقة ماركسية. ومنذ لحظة انتمائه الاولى، وجد في الماركسية منهجاً ورؤية للحياة والنضال، ولهذا كرس عقود عمره القصير ليقدم قراءته للماركسية، وتبنّيه مشروع تحرير الطبقة العاملة وجميع الشغيلة.

بعد اشتداد عوده السياسي والفكري، انتبه الفتى شديد الذكاء إلى ضرورة بناء الأداة الثورية لقيادة عمال وشعوب روسيا نحو تحقيق هدف سامٍ هو الاشتراكية، التي وجد فيها البديل التاريخي لتجاوز واقع التخلف والاستغلال وقهر الإنسان، الذي كانت تعيشه شعوب العالم كافة.

فقد تلمس عن قرب معاناة عمال بلاده مترامية الأطراف وفلاحيها. وأدرك أيضاً أن النضال في سبيل تحرير الإنسان لا بد أن يكون أممياً، انطلاقاً من أن المستغلين والمهيمنين يواجهون شعوب الأرض متحدين. فكان لينين أفضل من قدم بملموسية عالية قراءة جوهرية لأممية معلميه الكبيرين كارل ماركس وفريدريك إنجلس. ووفق تلك القناعات قدم لينين، مستندا إلى التطور المتحقق في عصره علمياً واجتماعياً، مجموعة من المؤلفات والبحوث والمقالات والخطب، التي لا يزال كثير منها يتمتع براهنتيه وأهميته. ولا يقلل من شأن ذلك ما شاخ منه ومحاولات البعض ليّ عنق تراث لينين الفكري والسياسي في سياق سعيهم لتثبيت سلطتهم، الأمر الذي قاد التجربة الاشتراكية التي وضع لينين حجرها الأساس، بين أسباب اخرى كثيرة، إلى الضعف والمراوحة والانهيار.

تعرض لينين عدة مرات للاعتقال والنفي، وكان اعتقاله الأول بعد تأسيس (رابطة سان بيترسبورغ للنضال من أجل تحرير العمل)، ثم نفي إلى سيبيريا حيث قضى ثلاث سنوات في المنفى. وفي ظروف من السرية أكمل مؤلفه الكلاسيكي (تطور الرأسمالية في روسيا). وسرعان ما التحقت به كروبسكايا التي كانت كادراً سياسياً رئيسياً في منظمة بترسبورغ، ومنذ ذلك الوقت واصلا العمل معا كرفيقين وزوجين حتى وفاته سنة 1924.

في عام 1900 ونظراً لواقع القمع في روسيا، أصدر لينين جريدة الإيسكرا في ألمانيا، بمشاركة ليخانف وماركسيي روسيا الأوائل. وبعدها انتقل إلى لندن في عام 1902.

وفي لندن ساهم بشكل كبير في التحضير للمؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الذي يعده الكثير من الباحثين المؤتمر التأسيسي للحزب. وصاغ لينين مشروع برنامج الحزب، الذي حظي بدعم أكثرية المندوبين، ولكن المؤتمر الذي بدأ أعماله في بروكسل واختتمها في لندن، شهد بداية الانشقاق التاريخي في حزب العمال الاشتراكي الروسي إلى أكثرية (بلاشفة) بقيادة لينين، وأقلية (مناشفة) بقيادة مارتوف. وكانت مجريات المؤتمر البداية الحقيقية لنشوء الحزب الطليعي من الطراز الجديد.

جاءت الأحداث الثورية لسنة 1905 لتؤكد المواقف التي شدد عليها لينين، خصوصاً الدور الثوري والمستقل للطبقة العاملة، أو بلغة اليوم جذرية برنامج الحزب وممارسته النضالية. فخلال مجرى الثورة قام العمال بتكوين مؤسساتهم النضالية في شكل مجالس سوفييتات، مثلت جنين السلطة العمالية. وخلال 12 شهراً قادت الحركة الثورية موجةً كثيفة من الاحتجاجات والإضرابات العامة، واستولت على مرافق حيوية للدولة. وبعد تراجع الحركة الثورية بفعل القمع الهمجي الذي أسفر عن مقتل الآلاف من العمال والعشرات من الكوادر الثورية، واعتقال الآلاف منهم ونفيهم، اضطر لينين في سنة 1907 إلى اللجوء إلى المنفى في الخارج. ومع ذلك فقد اعتبر لينين ثورة 1905 بمثابة (التمرين). فدون تلك التجربة ما كانت ثورة أكتوبر 1917 لتكون ممكنة.

ومثلت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) منعطفاً تاريخياً مهماً، ليس فقط في تطور الصراع في العالم، بل وفي تطور رؤية أنصار الماركسية ومواقفهم داخل وخارج روسيا. فقد كشفت الحرب زيف التبريرات الوطنية والقومية لتسويقها، وأظهرت طابعها العدواني. وكانت فرصة مهمة جداً لتقديم رؤية ماركسية لقضية الحرب والسلام، انطلاقاً من عدوانية دعاة الحرب ووحشيتهم من جهة، ومن ضرورة بلورة رفض للحرب قائم على قراءة طبقية وأممية واضحة. كان الموقف من الحرب نقطة تحول في مسار أنصار الماركسية، وقد استطاع لينين ورفاقه داخل روسيا القيصرية وخارجها، إعادة صياغة مشروعهم. وفي الداخل الروسي التقطت عبقرية لينين الفذة اللحظة التاريخية لتحقيق الانتصار.

ولا جدال بين المؤرخين والباحثين في أن ثورة اكتوبر 1917 هي الانجاز العملي الأكبر في حياة لينين، الذي أثبت بالممارسة ما أشار إليه في كتاباته، من أن الحرب تمثل عشية الثورات. فقد اجتاحت روسيا موجة ثورية بين شباط وتشرين الأول (أكتوبر) 1917، استطاع الحزب البلشفي بزعامة لينين أن يتوّجها بانتصار أول ثورة اشتراكية في تاريخ العالم الحديث.

لقد كان دور لينين الشخصي في 1917 حاسماً، وكان مشاركاً يومياً في الصراع ودارساً عبقرياً لتحولاته، محدداً لوحة توازن القوى الاجتماعية التي أفرزتها التطورات المتسارعة. واستطاع بحسه العبقري تحديد اللحظة التاريخية لانتصار الثورة، وبالتالي يمكن القول إنه ما كان لثورة أكتوبر أن تنتصر وتغير وجه العالم، لولا وجود قائد فذ من الطراز الذي كان عليه لينين. وهذا لا يعني إغفال دور حزب البلاشفة التاريخي، وجميع القوى التي ساندت وشاركت في الانتصار، ولا الظرف الموضوعي الذي شكل الأرضية الأساسية لانتصار الثورة.

لقد استطاع لينين بصبره ونفاذ بصيرته إقناع جمع من رفاقه في قيادة الحزب راهنوا على فكرة التعاون مع الحكومة المؤقتة. وكانت الجذرية والوضوح اللذان تحلّى بهما لينين في السنوات الأولى لبناء التجربة الضمانة القوية لاستمرارها.

وبعد نجاح الثورة وحسم الطبقة العاملة مسألة السلطة، تقلد لينين مهمة رئيس مجلس مفوضي الشعب وبقي يؤديها حتى وفاته سنة 1924. وخلال هذه السنوات خاض نضالاً دائباً لبناء أول دولة اشتراكية في التاريخ، سواء ضد قوى الثورة المضادة الداخلية وضد الإمبريالية ومختلف الصعوبات التي واجهت الدولة الفتية، أو ضد البيروقراطية التي كانت قد بدأت تحاول تشويه التجربة واغتيال الثورة.

 

اليسار العالمي وإرث لينين

احتفلنا بالذكرى اليوبيلية الـ150 لميلاد لينين بعد مرور 30 عاماً على انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوربا الشرقية، وفي عالم تغير فيه الكثير، مقارنة بالسنوات التي ناضل وبنى فيها لينين تجربة الاشتراكية الأولى. عالم تستمر فيه الأحزاب الشيوعية، وقوى اليسار الجذري بنضالها في ظروف صعبة: فحروب تدمير الدول الوطنية مستمرة، والرأسمالية تعمل على إعادة إنتاج نفسها، على الرغم من انكشاف زيف كذبتها الكبرى بشأن (نهاية التاريخ). فيما قوى اليسار بشكل عام في موقف دفاع، وفي أوربا موطن الاشتراكية الأول يعاني الكثير من قوى اليسار صعوبة الوصول إلى إجابات شافية على ظاهرة صعود قوى النازية واليمين المتطرف، التي أصبحت اليوم تمثل خطراً جدياً، لا على الشيوعيين واليساريين فحسب، بل على قضية الديمقراطية والتقدم في عموم العالم.

وقد دعا كتاب وباحثون للعودة إلى تراث لينين وتقصّيه مجدداً، بما يتلاءم مع المتغيرات والحاجة الموضوعية. وهناك الكثير من المنطلقات والرؤى في تراث لينين، التي يمكن أن تكون معيناً مهماً على طريق طرح البدائل المطلوبة.

لقد مثل رفض لينين للحرب بشكل ملموس وبعيداً عن العمومية بوصفه إياها حرباً إمبريالية، وأنها (حرب مالكي العبيد) جعل هذا الوصف يتمتع براهنيته حتى الآن، ولا يمكن تجاوزه. وبالنسبة لبلدان الشرق الأوسط في الظرف الراهن يتمتع الموقف اللينيني من الحرب بأهمية استثنائية.

ولقد اهتم لينين في سنوات المنفى واحتدام الصراع بأسئلة الفكر والفلسفة، وكانت الحقيقة بالنسبة له دوماً ملموسة، وانتبه لأهمية التهيؤ فكرياً لما يمكن أن يحدث. ويؤكد هذا أهمية العمل الجاد ذاتياً وفي إطار الحركة على تطوير الرؤية الفكرية وخلق الوضوح المطلوب، فدون ذلك لا يمكن الحديث عن سياسات وتكتيكات تقود إلى النجاح.

وفي متابعته للتحولات السلبية في الأممية الثانية، أصر لينين على ضرورة بلورة المشروع البديل الجامع والمرتكز على رؤية أممية، مع تحليل عميق للصراعات الاجتماعية في تعددها وترابطها. واليوم ومع الانفتاح وتعدد القراءات، يصبح البحث عن مشروع اليسار المشترك محلياً وقارياً وأممياً ضرورياً هو الآخر.

لا يستطيع الشيوعيون واليساريون اليوم، ولا ينبغي لهم استنساخ لينين. ولكن يجب عليهم أن يتعاملوا مع الأسئلة التي يطرحها الواقع، مستندين إلى الجوانب المضيئة في إرث من سبقهم.

 

العدد 1104 - 24/4/2024