خطاب غَزَل تركي جديد.. ولكن!
د. صياح عزام:
يبدو أن الأمور اختلطت عند أردوغان، بعد أن أعماه غروره وشعوره بالعظمة، فاكتشف مؤخراً ما تمثله مصر بحقائق التاريخ والجغرافيا، من أنها مازالت لها أهميتها ومكانتها في المنطقة، وما يترتب على ذلك من ضرورة بناء شراكة متبادلة معها لمعالجة عدة قضايا مهمة في شرق المتوسط وبعض الدول العربية، وما يخص العلاقة الثنائية بين البلدين.
في هذا السياق تتالت عبارات وتصريحات لمسؤولين أتراك كبار، منهم وزير الدفاع والناطق باسم الرئاسة التركية، حول الدعوة إلى فتح صفحة جديدة مع مصر وبعض دول الخليج العربي.
بالطبع شكلت هذه التصريحات تحولاً في لغة الخطاب السياسي يخالف السلوك التركي في السنوات التي أعقبت 30 حزيران 2013 وإطاحة حكم محمد مرسي في مصر وجماعة الإخوان المسلمين.
يقول أكثر من محلل سياسي متابع للسياسة الأردوغانية: إن هناك عوامل وراء هذا الغزل التركي والتودد لمصر، منها:
– عامل داخلي يتجسد بحالة عدم رضا الشعب التركي عن السياسات الإقليمية لأردوغان، المتعلقة بالتدخل العسكري والسياسي في الشؤون الداخلية لعدة دول عربية والدخول معها في نزاعات استراتيجية مفتوحة مع مصر وبعض دول الخليج، ما أدى لتضرّر المصالح الاقتصادية التركية، فضلاً عن احتلاله لأراضٍ سورية وعراقية.
– عامل دولي يتعلق بتغير المعادلات في العالم ومجيء إدارة أمريكية جديدة إلى البيت الأبيض، فأردوغان أصبح يشعر بعدم طمأنينة إزاء ما ستمارسه إدارة الرئيس بايدن تجاه قضايا وملفات الشرق الأوسط الساخنة، والخشية من تسويات لا تصب في مصلحته، أو تجاه تنفيذ تسويات على حساب تركيا في حلف الناتو، في سياق إعادة ترتيب أوضاعه بعد تراجعه أثناء ولاية الرئيس ترامب، أو في قضايا الصراع على غاز شرق المتوسط لصالح اليونان وقبرص وفرنسا.
مثل هذه الأجواء أقلقت أردوغان واستدعت مقاربات جديدة في الخطاب السياسي، ولكن ما هو خافٍ في الكواليس أكبر مما هو معلن أمام الميكروفونات، وهناك فارق بين نبرة الخطاب وجوهره، فالدعوة إلى فتح صفحة جديدة من دون أن تتجاوز العناوين العامة، ودون مراجعات للسياسات وحدودها، وما قد تنطوي عليه من فُرص مشتركة ومناطق ملغمة، هذه الدعوة لا معنى لها ولا فائدة مرجوة منها.
إن الملف الأكثر إلحاحاً هو غاز شرق المتوسط ومناطق تعيين الحدود البحرية، في ضوء حجم الغاز المتنازع عليها والاقتصاد المنهك لدى الطرفين التركي والمصري.
مصر أرسلت رسالة ظاهرة وغير معلنة تؤكد أنها لا تريد الاقتراب من الجرف القاري التركي عند تعيين الحدود البحرية مع قبرص واليونان، وكانت هذه الرسائل إيجابية سارعت تركيا إلى التقاطها خاصة بعد أن كانت الخلافات الجارية حول ليبيا كادت أن تؤدي إلى مواجهات عسكرية مباشرة.. في الوقت نفسه أعلنت تركيا في خطابها ورسائلها المعلنة أن اتفاق أنقرة مع حكومة (السراج) احتفظ لمصر بحقوقها الغازية، ولكن الحقيقة أن الاتفاق المذكور أولاً هو غير شرعي لأنها حكومة ليبية بالاسم وغير معترف بها، وثانياً يشكل خطراً على الأمن القومي المصري من خلال جعله لحدود مصر الغربية مكشوفة بالكامل لضربات جماعات العنف والإرهاب في ليبيا، إلى جانب ما تضمنه من قيام الجيش التركي بعمليات التدريب والتسليح لمجموعات السراج وتزويدها بالمقاتلين، بما يؤدي إلى تغيير موازين القوى على الأرض في ليبيا.
لا شك بأن تحسن العلاقات بين تركيا ومصر ودول الخليج خيار صحيح من حيث المبدأ، لأن تركيا دولة كبيرة في المنطقة، ولا يستهان بقدراتها ودولها، وأن تجاوز المشاكل وحلها على مساحة المنطقة، يمكن أن يكون لصالح الجميع، ولكن بشرط أن تتراجع أنقرة عن سياسة التدخل العسكري والسياسي في عدة دول عربية منها سورية والعراق وليبيا ولبنان، ولاسيما تدخلها العسكري المباشر في سورية لصالح مجموعات إرهابية مسلحة، وسرقة النفط السوري والمحاصيل الزراعية السورية، ومحاولات تتريك المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري، والشرط الآخر المهم أيضاً، أن يتراجع أردوغان عن تبنيه إيديولوجية (الإسلام السياسي) وسعيه لإقامة ما يسميها دولة الخلافة، وأن تعود تركيا إلى طبيعتها كدولة تعمل وفق القواعد الدولية المعمول بها والمتعارف عليها، بلا توسع ولا تحريض على الآخرين، ولا دعم للعنف والإرهاب في الدول العربية المجاورة وغير المجاورة لتركيا.
الخلاصة.. إن الخطاب السياسي التركي الجديد الذي أشرنا إليه في مقدمة الحديث يجب أن تتبعه إجراءات عملية وسياسات تركية جديدة، وإلا فإنه لا يبدل في الأمور شيئاً.