الانهيار
د. أحمد ديركي:
ينهار لبنان بوتيرة متسارعة، وليس كما يشاع أنه على طريق الانهيار. ويبدو أن ما من أحد يعمل على الحد من عملية استكمال الانهيار. وهنا يطرح السؤال: من يمكنه العمل على الحد من الانهيار إن لم يكن هناك مراكز أبحاث، بالمعنى الصحيح للكلمة، لا مراكز أبحاث وهمية مهماتها، إن وجدت، التملق للسلطة القائمة أو معارضتها لاستبدالها بسلكة تنتمي إلى الطبقة عينها والمنهجية عينها. العالم العربي برمته لا يملك مركز أبحاث واحداً، بالمعنى الصحيح للكلمة. لذا تصبح مقاربة أي أزمة تصيبه، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، على أسس علمية مقاربات فردية غير مكتملة، لأن الأزمات بحاجة إلى مراكز أبحاث متداخلة التخصصات.
مع الانهيار تكثر التحليلات وتكثر الآراء كما تكثر الحلول القائمة على مصالح المقاربين للانهيار. لكن يبدو أيضاً مما يقال أن كل هذه المقاربات آنية، أي لحظوية، ما يجعل منها غير نافعة.
الانهيار، كما هو الحال في لبنان، ليس وليد لحظة لتكون مقاربته لحظوية. فالنظام السياسي القائم والمرتبط بأوثق العلاقات مع الطبقة البرجوازية اللبنانية، والتي هي بدورها مرتبطة بأوثق الروابط مع الرأسمالية خارج حدود لبنان الجيو- سياسية، مولّد للأزمات. فالنظام السياسي اللبناني وطبقته البرجوازية عملا منذ نشوء لبنان على شرذمة المجتمع اللبناني ليتشكل في بنى علاقة مجتمعية تخدم كل منها. فعملا على تكوين مجتمع قائم على أسس طائفية متناحرة، وأسس مناطقية متنافرة.
اجتماع التناحر الطائفي والتنافر المناطقي ولد أسساً متينة لبقاء النظام السياسي الطائفي وعلاقاته مع الطبقة البرجوازية، وتمتينه، وبهذا تغلق الحلقة العلائقية ما بين المجتمع والنظام ليبدأ إنتاج كل طرف الطرف الاخر.
من خلال هذه العلاقة المتبادلة ما بين إنتاج وإعادة إنتاج النظام السياسي القائم تلعب الطبقة البرجوازية دوراً مهماً، بكونها الحليف الأول للنظام السياسي لتمتين موقعه السلطوي لما في هذا الموقع من أهمية لخدمة مصالح الطبقة البرجوازية.
تشابك هذه العلاقات المتبادلة يولد أزمات دورية تنفجر من وقت إلى آخر ومن ثم تخمد لتعاود الانفجار. أما البحث حول أسباب الانفجار فهو مسالة أكثر تعقيداً من مقاربة الانفجار بذاته. ويعود تعقيد البحث عن أسباب الانفجار إلى عوامل متعددة، منها على سبيل المثال لا الحصر تشويه الوعي الطبقي الذي تعمد كل من الطبقة البرجوازية وحليفها النظام السياسي على تشكيله في المجتمع القابل للانفجار. من خلال خلق وعي زائف في المجتمع، بعامة، ولدى الأغلبية تكون معالجة الأزمة، المترجمة بالانفجار، سهلة من قبل النظام السياسي، فتصور وكأن هذا الانفجار وليد لحظة ناجم عن خلل في موازين القوى الطائفية المتصارعة على حصصها في النظام السياسي.
بينما في حقيقة الأمر الانفجار، وإن كان في شكله الظاهري يطابق ما يزعمه النظام السياسي، في جوهره هو صراع طبقي تراكمت عوامله المفجرة ليصل إلى مرحلة الانفجار.
لكن عدم تشكل الوعي الحقيقي لدى الطبقات الاجتماعية المتفجرة يؤدي إلى الفشل وحرف هدفهم، كما يمكن استغلاله وبسهولة من قبل النظام السياسي القائم وحليفه الطبقة البرجوازية. لذا ما نشهده من انهيار في لبنان، وحالياً انهيار متسارع الوتيرة، لم يولد بالأمس، بل هو تراكمات سابقة عمرها من عمر لبنان.
لكن ما يجب لحظه أنه مع كل انفجار يرتفع منسوب الوعي الطبقي ويحتدم الصراع مع الوعي المشوه الذي يولده النظام. لذا يصبح الانفجار أعنف لأن النظام السياسي وحليفه الطبقة البرجوازية غير مستعدين للقيام بالتنازل عن جزء من مصالحهم الطبقية المتناقضة مع مصالح الجماهير الكادحة.
لكن هذا لا يعني أن الانهيار المتسارع في لبنان سوف يؤدي حتماً إلى انتصار الطبقة العاملة، بل سوف يؤدي مرحلياً إلى رفع مستويات الوعي الطبقي لديها إن فشلت في صراعها الحالي. على اعتبار أنه حالياً ما زالت موازين القوى تميل أكثر باتجاه إيديولوجية البرجوازية فهي، في هذه الجولة من المعركة ستكون الرابحة. لكنها ستكون رابحاً منهكاً، والطبقة العاملة الخاسرة ستكون الخاسر المستعد للجولة القادمة.
إلا إذا هيمن على وعي الطبقة العاملة أنها الطبقة الخاسرة في الصراع، وهذا ما تعمل الطبقة البرجوازية وحليفها النظام السياسي على تعميمه، فتتوهم الطبقة العاملة أنها خسرت المعركة وتسلم كل أسلحتها للنظام ليعيد تدميرها.
من خلال هذه الهيمنة الإيديولوجية يمكن تدمير كل إنجاز بوسع الطبقة العاملة أن تحققه. بالعودة إلى مراكز الأبحاث في هذا الموقع والانحياز الى الطبقة العاملة يكمن موقعه. فكم نحن بحاجة إلى مراكز أبحاث علمية تعمل لصالح الطبقة العاملة، لا لصالح الأنظمة السياسية وحلفائهم الطبقة البرجوازية.
من خلال مراكز أبحاث كهذه يمكن الحد من تدهور لبنان، والسير به للخروج من أزماته التي يولدها نظامه.