العام 2020

  يونس محمود يونس:

قصة قصيرة

      في حديقة المدينة كان الشتاء أكثر لطفاً، إذ كانت بعض الأشجار مورقة خضراء لا تعرف من أمر الشتاء شيئاً، وأعداد المتنزهين أقل بكثير من طاقة الحديقة على الاستيعاب، وهم بالمناسبة إما طلاب مدارس، شباب وبنات، أو عجائز آثروا الفرار من وجوه نسائهم، وها هو ذا عجوز منهم يظن أنّ رأسه فارغ بسبب فراغ الحديقة، أو لعل فراغ جيبه باستثناء بعض الأوراق النقدية المهترئة من فئة المئة ليرة هو الذي أفرغ ذهنه على ذلك النحو. فأخذ يتجول في الممرات على غير هدى، وبينما هو كذلك، وجد مقعداً يجلس عليه شاب يبدو تائهاً، أو لعله لا يلوي على شيء. فجلس بجانبه وقال محيّياً:    

      – مرحبا أيها الشاب! هل أنت بخير؟

      أجابه الشاب وهو يستدير نحوه ليراه:

      – أنا !! نعم، أنا بخير!

      – أنبأني وجهك بشيء آخر. من أين أنت؟

      – أنا من هنا!

      – هنا الحديقة! فهل أنت منها؟!

      – نعم أنا منها ما دمتُ أنا فيها. 

      فسأله العجوز بعد لحظات من التفكير:

      – ما اسمك أيها الشاب؟

      – اسمي سين، وتستطيع أن تناديني يا سين. فأجيبك على ندائك.

      قال العجوز:

      – ياسين والقرآن الحكيم؟!

      فردّ الشاب بطريقة لا تخلو من الاستغراب:

      – اسمي سين، والياء أداة نداء.

      قال العجوز:

      – مع ذلك الحالة صعبة.

      فقال الشاب وكأنه وجد ضالته:

      – نعم إنها صعبة، ولا نستطيع الفرار من هذا القدر السيئ مادام المكر هنا والمكر هناك!

      قال ذلك وهو يشير بيد إلى الأعلى. فقال العجوز وقد اكفهرّ وجهه قليلاً:

      – منذ بعض الوقت أخبرني عجوز مثلي، لكن أظن أنه خرفان، أخبرني أنّ الله لن ينسانا، وأنه سيرسل الكثير من ملائكته لمساعدتنا على الخروج من مكر هذه المحنة التي تفتك بنا.

      – وهل أخبرك العجوز الخرفان متى سيرسل الله هؤلاء الملائكة؟ أقصد: هل سيتأخرون مثلاً؟!

– الحقيقة، لم أسأله ما إذا كانوا سيتأخرون أم لا، لأنّ ذهني مشغول بأمور أخرى أكثر أهمية، وأكثر إلحاحاً.

– وما هذه الأمور التي تشغلك؟

قال العجوز وقد بدت عليه إمارات الهم والقلق أضعاف ما كانت عليه:

– ابنتي في عقدها الخامس وتريد أن تتزوج الآن، ولأنها ابنتي أشفق عليها وأتعاطف معها. لكني لا أعرف كيف أساعدها. إذ من الصعب عليّ أن أجد لها رجلاً مناسباً في هذه الظروف القاسية التي نمر بها.

      قال الشاب:

– المفروض أن تطلب الطلاق في هذا السنّ لا الزواج.

فردّ العجوز قائلاً:

– لو أنها تزوجت باكراً، ربما كانت تفكر الآن بطلب الطلاق. لكن من أين لنا أن نعرف ماذا يخبئ القدر لنا. هذا إذا كان منصفاً كما نتوهم. لأنه غالباً ما يكون ماكراً، وقد يأتينا متنكّراً بأبهى صوره ليضربنا بمكره الرهيب.

– قضية القدر تتكئ على الاعتقاد والإيمان، ولا يمكننا الدخول في هذه المتاهة الآن. لأنّ الناس، حتى المتفقين بأمر إيماني كهذا.. يختلفون في نظرتهم إليه. لكن ماذا عن العجوز الخرفان الذي حدثك عن الملائكة، هل هو خرفان حقّاً؟!

– لو كنت أعلم بميلك لأن يكون عاقلاً لجعلته أعقل من لقمان الحكيم. لأني أنا من اخترعته، وقد فعلت ذلك لأتسلى معك، وحتى قصة ابنتي الراغبة في الزواج لا أساس لها من الصحة. لأنّ الله لم يرزقني ولا بنصف بنت لتكون عوناً لي في آخرتي. لقد كذبت عليك، وهذه كل الحكاية.

– أنت؟!!

قال العجوز مندهشاً:

– أنا ماذا؟!

عندئذٍ أخذ الشاب يقهقه بطريقة عصبية كأنه يمزق ثوباً، وقبل أن يترك فرصة للعجوز كي يتكلم ثانية، نهض وهو يخفي وجهه بيديه كي لا يرى أحد دموعه. لكنّ نحيبه كان مسموعاً، ولم يفلح في إخفاء صوته.

فقال العجوز:

 – لماذا؟! لماذا؟! أرجوك لا تذهب.. لا تذهب أرجوك! فقد سمعت أحدهم يتحدث عن وجود قنبلة موقوتة في هذا الاتجاه الذي تسير فيه. عُد أرجوك!

  لكن الشاب لم يصغ، ولم يلتفت. في حين أخذ العجوز يهز رأسه مستغرباً.  

العدد 1104 - 24/4/2024