مستقبل لبنان بين المتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية

غالب أبو مصلح *:

شهد الكيان اللبناني منذ تأسيسه قبل مئة عام العديد من الأزمات السياسية التي تحوّل بعضها إلى حروب أهلية طائفية، استدعت تدخلات سياسية وعسكرية خارجية، للوصول إلى حلول، عبر مساومات بين قيادات الطوائف المتصارعة، دون المساس بالنظام المولّد للأزمات.

تبدو الأزمة الراهنة مختلفة عن سابقاتها، إذ فجّرها تردّي الأوضاع الاقتصادية والفقر المتنامي، فكان الحراك الشعبي عابراً للطوائف، ولو أن النظام نجح في تجنيد بعض الميليشيات الطائفية لحماية نفسه. يعتقد أهل النظام أن الأزمة الراهنة هي أزمة مالية ونقدية يمكن تخطّيها عبر الاستدانة الخارجية، بإشراف صندوق النقد الدولي و(إصلاحاته) الهيكلية التي تفرض سياسات (تقشّفية)، دون المساس بالنظام الليبرالي القائم وبمصالح الائتلاف الطبقي الحاكم. هنا يُطرح السؤال الأساسي: ما هي طبيعة الأزمة اللبنانية الراهنة؟ هل هي أزمة مالية-نقدية، أم أزمة قيادات سياسية طائفية فاسدة، يمكن استبدالها، أم أنها أزمة نظام سياسي-اقتصادي بُني لخدمة دورٍ محدَّد في زمن التوسّع الاستعماري الأوربي، عند أواسط القرن التاسع عشر في بيروت، لتكون الأخيرة مدينةً مفتوحة تشكّل موطئ قدمٍ ومقرّاً للشركات الأوربية، ولوحة وثوبٍ لها إلى داخل مناطق المشرق العربي. بيروت، مركز الخدمات التجارية والمالية لخدمة التجارة بين أوربا والمشرق العربي؛ بيروت، التي امتصّت لبنان منذ عهد المتصرفية، وأصبحت الطبقة الحاكمة فيها متحكّمة بدولة (لبنان الكبير)، عند إقامتها. بيروت تحكمها طبقة التجّار والصيارفة، المعادية للإنتاج السلعي، المناقض لمصالحها التجارية.

استمرّ هذا الائتلاف الطبقي في حكم دولة لبنان بعد (الاستقلال)، وبعد أن تطوّرت دول الداخل العربي، فاستغنت عن هذه الخدمات التي اعتادت بيروت تأمينها في السابق، كعقدة للمواصلات والاتصالات والتمويل والسمسرة. إن تشبّث هذه الطبقة الحاكمة للبنان بدورها البائد، وإصرارها على تجديد هذا الدور في سنة 1992، بقيادة رفيق الحريري، أوصلتنا إلى مأزقنا الراهن.

مع تسارع المتغيرات الإقليمية والعالمية، أخذت إمارة دبي بشكل خاص دور لبنان الاقتصادي، إلى حد كبير. إن ارتفاع أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي ولّد تدفقات كبيرة للثروات إلى منطقة الخليج العربي بشكل خاص، ودفع إلى ارتفاع كبير في الإنفاق العام والخاص، وإلى مضاعفة تدفقات السلع والخدمات من جميع أنحاء العالم. استجابت البنى التحتية في الخليج والبحر الأحمر لهذه المتغيرات عبر بناء وتحديث المرافئ والمطارات والطرق، كما الأسواق المالية والتجارية والمؤسسات الصحية والتعليمية والترفيهية. كانت إدارة دبي، الإمارة الفقيرة بالنفط، سريعة الاستجابة لهذه المتغيرات، وتحديث إدارة مرافقها، مع انزياح مراكز الإنتاج العالمية من الغرب الأوربي الأمريكي إلى بلدان شرق وجنوب شرق آسيا. باتت دبي بوابة المشرق العربي. بنت جبل علي كمنطقة صناعية حرة، ببنية تحتية وإدارية حديثة، منفتحة على جوارها العربي والإيراني المحاصَر.

بنت دبي المرفأ الأكبر والأكثر نشاطاً في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا، كما تقول مجلة (ذي إيكونوميست)، بمساحةٍ تتسع لـ22.4 مليون مستوعب شحن بطول عشرين قدم؛ كما بنت مطاراً يمثل نقطة العبور الرئيسية بين الشرق والغرب. أصبح هذا المطار أكثر ازدحاماً بالمسافرين الدوليين على صعيد العالم في سنة 2019.

أطلقت دبي، في تسعينيات القرن الماضي، سوقها المالية التي نمت بسرعة كبيرة، وأصبحت بوابة للاستثمار من وإلى الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا. يستضيف مركز دبي المالي الدولي، البالغة مساحته أقل بقليل من نصف كيلومتر مربع، 17 من المصارف العشرين الأولى في العالم، وثمانية من شركات المحاماة الأبرز عالمياً، وستة من أكبر عشرة صناديق لإدارة الأموال على مستوى العالم. نجحت دبي في أن تصبح عقدة المواصلات والخدمات المالية والتجارية ومركزاً للشركات العالمية الكبرى، بينما فشلت بيروت_ رغم بناء سوليدير_ في أن تصبح كذلك، بسبب المتغيرات الإقليمية والدولية، كما بسبب تخلّف نظامها والائتلاف الطبقي الحاكم فيها.

الكلام عن تغيير دور لبنان الاقتصادي، بحيث يتحوّل إلى إنتاج السلع بدل الخدمات، يعني تغيير عقلية الطبقة الحاكمة وبنيتها ومصالحها، وتغيير دور الدولة ومهمّاتها واستهدافاتها وسياساتها المالية والاقتصادية، وتغيير السياسات الضرائبية والجمركية، والعمل لبنية تحتية جديدة مختلفة، وبناء علاقات خارجية مختلفة، وبنية مصرفية وسوق مالية مختلفة، ووضع موازنات عامة مختلفة كلياً.

إن مهمة التصنيع المتأخر تفرض حماية الصناعات الوليدة ودعمها، كما تفرض توسيع السوق لهذه الصناعات، والتكامل الأفقي بين المؤسسات الصناعية، محلياً ومناطقياً على الأقل، بالسعي أولاً إلى سوقٍ عربيةٍ واحدة، وربما إلى سوقٍ واحدة، تشترك فيها الدول العربية والدول (الإسلامية) المجاورة، تؤمّن الأرضية الضرورية لنهضةٍ صناعية. إن إحداث التغيير المطلوب، القادر على انتشال لبنان من مأزقه البنيوي التاريخي، يحتاج إلى بناء أداة التغيير السياسي، اللبنانية-العربية، ذات المشروع المعلن، وإقناع أوسع الجماهير بضرورتها. على قيادة التغيير المرجو مواكبة وفهم المتغيّرات الإقليمية والدولية الآخذة بالتسارع، وبناء تحالفاتها مع القوى الصاعدة المساندة للتغيير. لا بد هنا من طرح العديد من الأسئلة.

أولاً_ على الصعيد العالمي

مع تجدد الحرب الباردة الآخذة بالتصاعد بين الولايات المتحدة من جهة، والصين الشعبية والاتحاد الروسي وتحالفاتهما من جهة أخرى، يُطرح السؤال: هل وصل النظام الرأسمالي الليبرالي إلى مأزقه التاريخي، في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة؟ هل تفوّق النظام الاشتراكي، الأكثر إنسانية وعدالة، على النظام الرأسمالي؟ هل تنزلق الحرب الباردة بين الفريقين إلى حربٍ كونية تدمّر الحياة على وجه الأرض؟ هل يمكن التراجع، كما تفعل اليوم قيادة ترامب في الولايات المتحدة، عن مسيرة العولمة الناقصة (حرية انتقال السلع والأموال، دون انتقال البشر)؟ أم أن التطوّرات في بنية الصناعات الحديثة، والتخصّص في مراحل التصنيع، وظهور سلاسل الإمداد المواكبة لهذه المتغيّرات، أصبحت جزءاً من البنى الصناعية العالمية الحديثة، ولا يمكن العودة عنها؟

حقّقت الصين معدّلات نموّ مرتفعة جداً، تجاوزت 10.5% سنوياً، لعقودٍ عدّة، مستندةً إلى معدّلات ادّخار مرتفعة، تجاوزت 50% من الناتج المحلي. رفعت الصين معدّل أجور القوى العاملة فيها بنسبة ارتفاع معدّل الدخل الفردي. استطاعت الصين اجتثاث الفقر بأسرع وتيرة في التاريخ العالمي. في سنة 2014، تجاوز الناتج المحلي الصيني، بالقيمة الحقيقية (Purchasing Power Parity)، الناتج المحلي الأمريكي، حسب دراسات صندوق النقد الدولي. وزاد عن الناتج الأمريكي عند نهاية سنة 2019 بنسبة 27%. من المنتظر أن يحل اليوان الصيني مكان الدولار الأمريكي كعملةٍ أساسية لتمويل التجارة العالمية والاحتياط المالي، خلال بضع سنوات. تحدّد القدرات الاقتصادية القدرات العسكرية للدول على المديين المتوسّط والطويل. هنا يُطرح السؤال التالي: هل يعني صعود الصين، بإيديولوجيتها الاشتراكية وثقافتها الخاصة المميّزة (الكونفوشية)، أفول الثقافة الغربية التي سيطرت على العالم لقرنين من الزمن أو أكثر، وليبزغ فجرٌ عالميٌ جديد، بعيد عن الحروب والدمار؟ هل تخطّت الولايات المتحدة ذروة قوّتها في سبعينيات القرن الماضي، كما قال كيسنجر، ووافقه على ذلك بريجنسكي؟

دخلت الولايات المتحدة في أزماتٍ اقتصادية متكرّرة منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي. عملت أمريكا على ديمومة تفوّقها الاقتصادي وقيادتها للنظام الرأسمالي العالمي ومؤسساته الدولية عبر منع أية دولة، صديقة كانت أم عدوّة، من تجاوز قدراتها على أي صعيد. أسقطت واشنطن اتفاقات بريتون وودز في أوائل السبعينيات، ونقلت نظام النقد العالمي من السعر الثابت إلى السعر العائم للعملات، ودفعت بالعديد من دول العالم إلى أزماتٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ حادّة، تجاوز عددها 164 أزمة في القرن الماضي فقط. حوّلت واشنطن الأسواق المالية العالمية إلى نوادٍ هائلةٍ للمقامرة. حمّلت الولايات المتحدة كلّاً من اليابان وألمانيا الغربية المسؤولية عن تنامي عجوزات موازين مدفوعاتها وتجارتها الخارجية. تشنّ الإدارة الأمريكية الحالية حروباً تجارية على الصين ومؤسساتها، كما على العديد من دول العالم. تعمل على قطع الطريق أمام تقدّم الصين، بغية استعادة الهيمنة. لكن هذه السياسات العدائية تجاه معظم دول العالم لم تحسّن موازين التجارة والمدفوعات الأمريكية، بل فاقمت عجوزاتها. نما الدين العام الأمريكي بوتيرةٍ متسارعة، وأصبحت الولايات المتحدة أكبر دولة مدينة في العالم، مهددة بانهيار أسواقها المالية في مستقبل قريب. تصرّ الإدارة الأمريكية على تحميل دول العالم المسؤولية عن تخلّفها النسبي، اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً، بدل البحث عن هذه الأسباب في داخل نظامها.

ثانياً_ المتغيّرات الإقليمية

ما زال الوطن العربي، ومشرقه بشكلٍ خاص، يعاني من تداعيات هزيمة 5 حزيران 1967. أنتجت هذه الهزيمة، وخاصة بعد وفاة جمال عبد الناصر، سقوط دور مصر العربي والعالمي، وسقوط حركة التحرّر العربية. كانت حروب الخليج والتدمير المنهجي والكامل للعراق، بحيث هبط ناتجه المحلي إلى حوالي 10% مما كان عليه في أواخر السبعينات (بالمقارنة، هبط الناتج المحلي للاتحاد السوفياتي، نتيجة الغزو النازي، إلى 60% مما كان عليه قبل الغزو). دُمِّرت سورية وليبيا واليمن والصومال ولبنان، وقُسٍّم السودان. أعادت الهزيمة القواعد العسكرية الأجنبية إلى الأرض العربية، وحوّلت العديد من كياناته المفتعلة إلى أشباه مستعمرات أو مستعمرات أمريكية. أتاح هذا الانهيار إنعاش أحلامٍ إمبراطورية عديدة، وسياساتٍ توسّعية من طرف قوى الجوار العربي، على حساب الأرض العربية والحقوق العربية. يمكن القول إن القوى الرئيسية الفاعلة على صعيد المشرق العربي ومحيطه الإسلامي تنحصر في 4 دول متوسطة الحجم من حيث عدد السكان، وهي تركيا وإيران والحبشة ومصر، إضافة إلى كيان الاحتلال الصهيوني، بصفته (ولايةً أمريكية)، وفقاً لتشومسكي.

تركيا

كانت تركيا في المرتبة الـ 19 عالمياً من حيث حجم ناتجها المحلي. اعتمدت في نموّها الاقتصادي على تدفّقاتٍ ماليةٍ خارجية، معظمها قصير الأجل، وتوظيفات أوربية وخليجية في سوقها المالي وسوقها العقاري. مع تدنّي معدّل الادّخار الوطني، أخذ الاقتصاد التركي بالتراجع، وخفّضت وكالات التصنيف الائتماني تصنيف تركيا إلى درجة الأخطار العالية. دفعت الأحلام الإمبراطورية بتركيا إلى العمل على إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية، وخوض مغامراتٍ عسكريةٍ مكلفة ومتعدّدة في سورية والعراق وليبيا، وبناء قاعدتين عسكريتين في قطر والصومال. ارتفع الإنفاق العسكري التركي بما يقارب 50% سنوياً، منذ سنة 2016. تبلغ كلفة العمليات العسكرية التركية في سورية حوالي 3 مليارات دولار سنوياً. أدّت هذه المغامرات إلى انهيار سعر صرف الليرة التركية منذ سنة 2012 وحتى اليوم بنسبة 75%. أدّى ذلك إلى إعادة جدولة ملايين القروض بالدولار، ودفع العديد من الشركات إلى الإفلاس. قفزت ديون تركيا الخارجية إلى 431 مليار دولار، وارتفع العجز التجاري السنوي لديها بنسبة 102.7%، وارتفع معدّل البطالة إلى 12.9%، وأصبح أكثر من 17 مليون تركي يعيشون على الإعانات. أصبح الاقتصاد التركي على شفير الانهيار، وتشهد السوق المالية التركية فراراً تاريخياً للمستثمرين الأجانب، إذ هبط نصيب ملكيتهم في السوق المالية من أكثر من 70% إلى أقل من 50% اليوم.

إيران

برزت في إيران طبقة أثرياء جدد وثيقة الترابط مع النخب السياسية والعسكرية والدينية الحاكمة، في الوقت الذي يتراجع فيه مستوى معيشة الإيرانيين. انحدر أكثر من 35% من الإيرانيين إلى تحت خط الفقر، وكان 70% من سكان إقليم سيستان وبلوشستان تحت خط الفقر في سنة 2015؛ وبلغ عدد العاطلين عن العمل 6 ملايين، وفق تصريح وزير العمل الإيراني.

شهدت إيران حراكاً شعبياً واسعاً نتيجة تردّي مستويات المعيشة، قُمِع بقسوةٍ شديدة. كتب عامر محسن في جريدة (الأخبار) الموالية لإيران أن المنسي في إيران هو العامل الإيراني الذي يمثّل السواد الأعظم من الشعب، حيث يزيد حجم الطبقة العاملة على 27 مليون فرد. إن سياسة روحاني النيوليبرالية أدّت إلى تهميش هذه الفئة وخفض مستوى معيشتها. لم يُثمر اعتماد روحاني على نهج (إجماع واشنطن) (الخزينة الأمريكية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي) تدفّق الاستثمارات الأجنبية على بلاده، كما اعتقد الرئيس الإيراني. ارتفع معدل البطالة في إيران باستمرار إبان حكم الأخير. نجد التزاماً لدى روحاني بسياسة الخصخصة؛ أكثر السياسيين والنخب ومَن في الحكم، منذ أيام رفسنجاني، هم من الليبراليين.

ربما بسبب الصعوبات الاقتصادية والحصار الأمريكي والتعدد القومي والإثني في إيران، حيث يشكّل الفرس الحاكمين فيها أقل من نصف عدد الشعب، يتّجه النظام نحو التعصّب القومي والعودة إلى الماضي، وإحياء الأحلام الإمبراطورية الشوفينية. قال مستشار روحاني خلال مؤتمر في طهران عن إيران والقومية والتاريخ والثقافة: (كان لإيران منذ نشأتها بعدٌ عالمي. لقد ولدت إمبراطورية، وطالما شغل هذا البعد العالمي فكر قادة إيران ومسؤوليها). وقال إن العراق هو عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، بالإشارة إلى مدينة بابل. اتّبعت الدولة الإيرانية، قبل الثورة الخمينية، سياسة التوسّع في الخليج والعراق. وبنت إيران حديثاً سلسلةً من السدود على الأنهار الإيرانية التي تصب في نهر دجلة، وعددها نحو ثلاثين نهراً، فحوّلت مسار معظمها إلى داخل إيران، حارمةً نهر دجلة من 12% من مياهه.

أثيوبيا

هي ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان في القارة الإفريقية. شهدت ثلاث ثورات في تاريخها الحديث؛ أسقطت الأولى حكم هيلاسيلاسي سنة 1974، وأسقطت الثانية الحكم الماركسي عام 1991، وأتت الثالثة بآبي أحمد إلى الحكم سنة 2018. في سنة 2018 بلغ عدد سكان أثيوبيا 105 ملايين نسمة. نما الناتج المحلي الأثيوبي بمعدّل بين 7% و8% سنوياً، طيلة الأعوام الـ15 السابقة لسنة 2018، وذلك اعتماداً على الاستدانة الخارجية والعلاقة الوثيقة مع الصين. في أثيوبيا 80 إثنية، ولها تاريخ إمبراطوري طويل؛ فقد احتلت أخيراً أريتريا لسنوات طويلة، ثم احتلت أجزاء من الصومال (صحراء أوغادين)، زاخرة بثروات طبيعية، أهمها اليورانيوم. تتحكّم أثيوبيا بنهر النيل الأزرق، وتبني أكبر سد في إفريقيا على هذا النهر، مهدّدة الأمن المائي لمصر والسودان، مستندةً إلى دعمٍ فنّي وعسكري من الكيان الصهيوني. تشهد أثيوبيا اضطرابات واقتتالاً بين مكوناتها الإثنية الكبرى، حول الأرض والمياه والسلطة السياسية.

مصر

تشهد مصر منذ إسقاط حكم الإخوان المسلمين فيها ثورةً شاملة على غير صعيد، وتبني قدراتها الاقتصادية والعلمية والصناعية والعسكرية، وتجدد بنيتها التحتية، رغم قتال الأصوليين الإسلاميين في شبه جزيرة سيناء خاصة. بلغ معدل نمو الناتج المحلي المصري، حسب مجلة (ذي إيكونوميست): 5% في الأشهر الـ12 المنصرمة؛ وكان هذا النمو الأعلى بين الدول الـ42 التي تنشر المجلة مؤشراتها الاقتصادية. تلت مصر من حيث معدل النمو الصين التي نمت بمعدل 3.2%، بينما تدنّى ناتج معظم بقية الدول. تعمل مصر على بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية، بتحالف استراتيجي مع الصين وروسيا بشكل خاص. تبني الصين مدينتين صناعيتين في منطقة قناة السويس الجديدة، وتبني روسيا مدينة صناعية أيضاً. تبني مصر كذلك صناعات عسكرية متقدمة، بالتعاون مع الصين بشكل خاص، وتجدد دورها السياسي في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتوسّع دورها العربي، خاصة في ليبيا، لردع التوسّع التركي في شرقي المتوسط والبر الليبي؛ وتتحالف مصر مع العراق لتنميته ودعم أمنه. تعاني مصر عداء ما أسماه بن غوريون في الخمسينات (دول الحزام)، أي تركيا وإيران وأثيوبيا، ومن أطماع هذه الدول الإمبراطورية في زمن الضعف العربي، فهذه الدول تهدد الأرض العربية والأمن المائي العربي، بجانب تهديدات (إسرائيل) التي استولت على مياه فلسطين ومياه نهر الأردن ونهر الوزاني، وتتطلّع للاستيلاء على مياه نهر الليطاني.

الكيان الصهيوني

لعب الكيان الصهيوني دوراً أساسياً في تاريخ المشرق العربي خاصة، منذ إقامته في 1948؛ وكان القبضة الاستعمارية-الإمبريالية في التصدي لحركة التحرّر العربية، الداعية إلى الوحدة والتحديث. يقول إيلان بابي (أحد (المؤرخين الجدد) الذي اضطُر إلى ترك فلسطين المحتلة واللجوء إلى أوربا):

(ليست الصهيونية سوى امتداد للاستعمار الأمريكي في الشرق الأدنى. بالتالي، تصبح دولة إسرائيل نتاجاً استعمارياً فاقداً لكل مشروعية… وتصبح الخطة الصحيحة تجاه الفلسطينيين هي تفكيك دولة إسرائيل وخلق دولة لكل المواطنين).

إن تراجع القدرات الأمريكية النسبية، وأفول عصر الإمبريالية الجديدة، سيلغي دور الكيان الصهيوني التاريخي ومبرر وجوده، خاصة مع متغيرات الداخل في الكيان نفسه، وتأزّم أوضاعه الاجتماعية، السياسية والاقتصادية.

كان معظم قادة الصهاينة العلمانيين، الذين حكموا الكيان حتى 1977، يدركون مرحلية ديمومة هذه الكيان، إن لم يتمكن من الاندماج في محيطه العربي-الإسلامي، إذ كانوا يعرفون جدلية التاريخ. كانوا يعرفون تاريخ الإمارات الصليبية، ويدركون أن بقاء الكيان على المدى الطويل يرتبط باستمرار الهجرة إليه، وبتحقيق حل سلمي للصراع مع محيطه، قبل انقضاء عصر الإمبريالية الغربية. كتب ناحوم غولدمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، في مقال له في مجلة (فورين أفايرز) في عام 1975، قائلاً: (لا يوجد لإسرائيل مستقبل على المدى الطويل دون تسوية سلمية مع العرب… إن مطالبة الصهاينة بدولة يهودية تتناقض بشكل تام مع كل مبادئ القانون الدولي والتاريخ الحديث).

تحوّل هذا الكيان، منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، إلى قبضة إمبريالية، بل إلى ولاية أمريكية أكثر رعاية، تستعملها واشنطن لتنفيذ أعمالها الأكثر قذارة وإجراماً في العالم. يستشهد نعوم تشومسكي بقولٍ للسيناتور غرامتسون في رؤية الولايات المتحدة للكيان الصهيوني، إذ قال:

(إن إسرائيل قيمةٌ استراتيجية منذ سنة 1950. اعتبر المخططون الأمريكيون إسرائيل القوية حاجزاً في وجه القومية العربية الراديكالية، وحديثاً جداً كقاعدة لإظهار القوة الأمريكية، وكحليف قيّم لمناطق أبعد من الشرق الأوسط، في إفريقيا وأمريكا الوسطى بشكل خاص… وحيث العلاقات كانت متذبذبة، فإن الرؤية تقدمت حيث أظهرت إسرائيل قوتها في وجه تهديدات مختلفة لسيطرة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط).

بإمكان هذا الكيان أن يبقى ما بقيت السيطرة الإمبريالية في المنطقة، وفي المشرق العربي وجواره بشكلٍ خاص. كتب المعلّق الاقتصادي في صحيفة (هاآرتز)، نحاميا تشترسلر، عام 2015:

(لدينا صديقة كبيرة توفر لنا التفوق العسكري، وهي التي تمنحنا الطائرات الأكثر تقدماً، والمحركات لدبابات ميركافا، والأموال لتطوير القبة الحديدية (منظومة صاروخية اعتراضية). هي التي تمنحنا كل سنة منظومات سلاح بثلاثة مليارات دولار، ليست مستعدة لأن تزود بها أي دولة أخرى. هذا هو التفوق النوعي الذي يسمح لنا بالبقاء على قيد الحياة. بكلماتٍ أكثر فظاظة، فإننا متعلقون بالولايات المتحدة بحياتنا حقاً.

أن نكون ذوي أهمية لأمريكا لأنها تستخدمنا كحاملة طائرات برية في الشرق الأوسط المجنون. ولكن يمكنها أن تتخلى عن هذه الخدمات وتواصل حياتها. نحن لا يمكننا أن نعيش دونها، وهذا كل الفرق الذي في العالم).

تخلّص الاتحاد الروسي من القبضة الأمريكية مع إسقاط حكم يلتسين وسياسة إجماع واشنطن الاقتصادية (ما سُمّي بـسياسة (العلاج بالصدمة). عمل بوتين على إنهاض روسيا وقدراتها، وتسارع النهوض الصيني الشامل. اندفعت الولايات المتحدة إلى تبنّي سياسة (الاحتواء المزدوج) للصين وروسيا، على المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية، والعمل بكل الوسائل المتاحة، خاصةً مع حكم الترامب اليميني الشعبوي المتطرف، على محاولة منع تقدّم الصين بشكل خاص، وتجاوز قدراتها الشاملة قدرات الولايات المتحدة. وجّهت واشنطن اهتماماتها الأساسية وقدراتها الشاملة (الاقتصادية والسياسية والعسكرية) نحو منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، وسعت إلى إقامة تحالفات سياسية واقتصادية وعسكرية موالية لها لمحاصرة النهوض الصيني.

أدركت القيادات الصهيونية خطورة هذه التحولات. ورد في تقرير مؤتمر هرتزيليا سنة 2012 ما يلي:

(لا يمكن التهرّب من الانطباع بأن الولايات المتحدة ترى في إسرائيل، بخطواتها المستقبلية، خطراً استراتيجياً، أكثر مما تراها حليفاً استراتيجياً. إن الإدارة والمؤسسات الأمريكية تصرفان انتباههما الاستراتيجي والسياسي في الشرق الأوسط إلى الحلبة الآسيوية وحوض المحيط الهادئ. في إطار الخطوة الأمريكية الجديدة، ستوجّه موارد اقتصادية وعسكرية وسياسية نحو آسيا. في هذه الظروف، فإن الإصغاء السياسي الأمريكي لمناطق أخرى في العالم، بينها أوربا والشرق الأوسط، سيكون محدوداً وبالغ المحدودية.

بدأت هذه الأيام إخلاء لواءين مقاتلين من الجيش الأمريكي من القواعد الثابتة في أوربا. إن إعلان وزير الدفاع الأمريكي الذي يشكك بطول عمر حلف الأطلسي يشهد أكثر من أي شيء آخر على المكانة الدولية المترنحة لأوربا).

بسبب المخاوف من التحولات الاستراتيجية الأمريكية، عمل قادة الكيان الصهيوني على بناء علاقات اقتصادية وتجارية مع الصين الصاعدة، مما أثار غضب واشنطن، وتم ردع القادة الصهاينة عن ذلك. نرى اليوم توجّه الاتحاد الأوربي، بقيادته الألمانية-الفرنسية، إلى التمرّد على الأوامر الأمريكية، والتصدي للتهديدات الاقتصادية الأمريكية. كما نرى بعض دول الاتحاد توثّق علاقاتها مع موسكو وبكين.

يزداد القلق لدى القيادة العلمانية في كيان الاحتلال على مستقبل الكيان الذي يتحكّم فيه اليمين الديني المتطرف، الذي لا يفهم التاريخ وجدليته، وينساق وراء الأفكار التلمودية البعيدة عن العصر المعيش، ولا يدرك الفرق بين الرغبات والقدرات.

عبّر الرئيس الصهيوني، رؤوفين ريفين، عن رؤيته لتمزّق (المجتمع الإسرائيلي)، في كلمته أمام مؤتمر هرتزيليا عام 2016، فقال:

(إن الانقسام في المجتمع الإسرائيلي قائمٌ على مستوى الخيار والهوية والتطلعات، وأيضاً الكيفية التي تسعها إليها فئاته في تحقيق خياراتها وتطلعاتها، مؤكداً أن الانقسام بات يتحرك ضمن (قبائل أربع) يتألف منها المجتمع الإسرائيلي. الشريحة العلمانية، والدينية الصهيونية، وتلك الدينية الحريدية، إضافة إلى عرب إسرائيل، فلسطينيي عرب أراضي عام 1948).

في كلمة لرئيس الأركان الأسبق في جيش الاحتلال، بني غانتس، أمام معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، حول التحديات الاستراتيجية لكيان الاحتلال، ورداً على سؤال (ما هو الخطر الأكبر التي تواجهه إسرائيل)، قال:

(أجيب دون تردد أن إسرائيل هي الخطر الأكبر على نفسها. أكبر التحديات التي تواجهها هي التربية والتعليم، والانقسامات في المجتمع، وعدم المساواة).

صفقة القرن

لا يمكن لصفقة القرن الأمريكية أن تحقق الحل السلمي الذي يريده ترامب والمسيحية الصهيونية في أمريكا، إذ إنها لا تعطي شيئاً من حقوق الفلسطينيين، ولو وافقت عليها جميع الأنظمة العربية. إن جوهر الصراع هو الظلم التاريخي المستمر للشعب العربي الفلسطيني، الذي تزداد مع الأيام آلامه ومعاناته. يتجه الكيان الصهيوني في مأزقه التاريخي نحو مزيد من العنصرية والفاشية وانتهاك جميع حقوق الشعب الفلسطيني. إن (إسرائيل) التي تقودها الأصولية الدينية التلمودية لا يمكن إلا أن تغذي بسياساتها جذوة المقاومة، وتعمق الكراهية والعداء لهذا الكيان، ليس لدى الشعب العربي الفلسطيني فقط، بل لدى الشعب العربي كله، ولدى جميع شعوب العالم المحبة للعدالة والسلام والحرية.

إن اتفاقي كامب دايفيد ووادي عربة لم يؤديا إلى قبول الكيان الصهيوني لدى الشعب في مصر والأردن. إن اعتراف أشباه المستعمرات الخليجية بهذا الكيان لا يعدو كونه فقاعة إعلامية فرضتها الإدارة الأمريكية بالقوة والتهديد على أنظمة تابعة ومعزولة وعاجزة. هددت الولايات المتحدة الخليج بدفع دبي إلى الانهيار عبر حصار ومقاطعة قطاعها المالي والخدماتي الضخم، وهي المتهمة بتبييض الأموال على نطاق واسع. ووضع القطاع لرقابة شديدة، لعام كامل، لمؤسسة تافت الأمريكية التكوين والهوى، وفي وقت تعاني منه الإمارة من آثار وباء كورونا.

إن الإدارة الأمريكية تريد أن تصل إلى حل، ولو وهمي، خدمة لأهداف انتخابية للحزب الجمهوري الأمريكي، وللتخلص على المدى المتوسط من أعباء الكيان المادية المستقبلية في مرحلة تنامي مديونيتها العالمية التي ستتخلى مبلغ 26 تريليون دولار في هذه السنة، وحصر اهتماماتها في صراعها مع الصين التي أخذت تتجاوز قدراتها القدرات الأمريكية في شتى المجالات.

ثم إن المراحل السابقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، حتى قبل بروز (محور المقاومة) وتراجع القدرات الأمريكية، لم يدفع الجماهير الفلسطينية المناضلة إلى اليأس والاستسلام. بل إن التحولات داخل كيان الاحتلال وخارجه دفعت بالسلطة الفلسطينية المستسلمة أصلاً والمتعاونة جداً مع قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية، والتي تآمرت على الشعب الفلسطيني والتزمت باتفاقات أوسلو، تراها اليوم، بعد يأسها من الحلول السلمية، تراها تتراجع عن هذه الاتفاقات، وتتصالح مع قوى المقاومة الفلسطينية.

تعمل السلطات الأمريكية على لي ذراع السودان، عبر فك الحصار عنه مقابل اعترافه بالكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه، لكن للشعب العربي في السودان رأياً آخر. إن صفقة القرن، كما اتفاقات أوسلو، كما اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة، أعجز من أن تخضع الشعب الفلسطيني خاصة وتجبره على التخلي عن حقوقه التاريخية، والقبول بسيطرة القوى العنصرية الفاشية على أرض فلسطين التاريخية.

أسئلة للمستقبل

* تعمل الولايات المتحدة على الانسحاب من المشرق العربي، وتعمل على ضمان بقاء كيان الاحتلال الصهيوني، عبر دفع أشباه المستعمرات العربية للاعتراف بكيان الاحتلال وإدماجه في المحيط العربي؛ فهل تنجح أمريكا في ضمان مستقبل (إسرائيل) عبر هذه السياسة؟

كيف ستستقر موازين القوى في المشرق العربي بعد الانسحاب الأمريكي المنتظر؟ هل سينهي الانسحاب الأمريكي الحروب في سورية والعراق، وهل سيتم الحفاظ على وحدة هذه الدول، حيث غذّت الولايات المتحدة القوى والاتجاهات الانفصالية؟

* هل بالإمكان إعادة بناء حركة التحرّر العربي، وإحياء الأحزاب القومية-اليسارية؟ هل للبنان خيارٌ آخر غير الاندماج في المحيط العربي، لينمو فيه ومعه؟

* في زمن التكتّلات العملاقة التي يفرضها التقدّم التقني والعلمي، كيف ستُبنى السوق الاقتصادية العربية؟ ربما بالتعاون والاندماج مع دول المحيط الإسلامي، التي عليها التخلي عن أفكارها الدونكيشوتية وأحلامها الإمبراطورية؟

* هل بالإمكان، في مرحلة المخاض العسير التي تمر بها دول بر الشام، إنجاز تحوّل سياسي واقتصادي اجتماعي في لبنان، وهو الذي اعتاد أن تقرر مصيره توافقات إقليمية ودولية؟

* هل بالإمكان بناء أداة التغيير على الصعيد المحلي، دون أن تكون لها امتدادات عربية، ودون إعادة إحياء حركة الثورة العربية، بأبعادها القومية-اليسارية، المعادية للاستعمار والإمبريالية والصهيونية؟

* كاتب ومفكر لبناني

العدد 1102 - 03/4/2024