منجمون ومثقفون

عيسى وطفة:

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن حرب عالمية ثالثة على الأبواب تدقّ طبولها بين عملاقين هما الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والصين الشعبية من جهة أخرى!

والحرب كما هو معروف وسيلة قاسية من أجل فرض إرادة طرف منتصر على آخر مهزوم مرغم على الجلوس إلى طاولة المفاوضات في نهاية الحرب.

جرت العادة أن نسمع تخيّلات كهذه من أشخاص امتهنوا التنجيم للإثارة والتشويق من أجل كسب المال وتحقيق أحلامهم بالنجومية وحب الظهور، أما أن ينبري مفكرون مرموقون وأصحاب تاريخ علمي وثقافي وخبرات عالمية في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة لعرض تخيّلاتٍ كهذه، ويضعون سيناريوهات محتملة وتواريخ شبه مؤكده لهذه الحرب النارية القاسية، فإن هذا فعلاً هو العجب العجاب!

ومما يثير السخرية أن الناس على اختلاف ثقافاتهم وتعليمهم ومستوياتهم الطبقية يستمعون إلى كلا الطرفين ويصدقونهم، يلوذون خوفاً من هذه الحرب، طامّين رؤوسهم في التراب، متجاهلين كل ما تعلموه ودرسوه عن الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى حروب عالمية، وغافلين عن الأسباب الموضوعية المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين عرفتهما البشرية خلال القرن العشرين.

وكما قال ماركس (التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأولى مأساة، والثانية على شكل مهزلة)، فإن ما يدعو للأسف أن البشر غير مدركين حتى الآن بأن الحرب العالمية الثالثة كانت هي الحرب المأساة وقد حصلت عام ١٩٩١، فكانت نتيجتها المباشرة انهيار الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الشيوعية لنظام الحكم وإدارة المجتمعات، هذه الحرب أدت إلى بروز النظام الرأسمالي الإمبريالي كنظام وحيد سيقود العالم للفترة القادمة دون منازع، هذه الحرب العالمية الثالثة حصلت دون استخدام صواريخ عابره للقارات ولا صواريخ برؤوس نووية، وإنما هي حرب عالميه ثالثة هُزمت فيها نظرية إيديولوجية وانتصرت فيها نظرية إيديولوجية أخرى، هُزم فيها معسكر وانتصر معسكر آخر، وجرى بعدها ككل الحروب إعادة رسم الخريطة السياسية وتقسيم العالم، وكل طرف شارك في تلك الحرب نال حصته كل حسب قوته ونفوذه.

في ذلك التوقيت كان الناس سكارى باحتفالات العام الجديد وعطلة رأس السنة الطويلة، سكتت أقلام وأصوات المؤرخين في ذلك الحين عن توصيف وتسمية ما حدث من أجل خدمة الساسة والسياسة الرأسمالية، وسكت المدافعون الحقيقيون عن الشيوعية في صدمة وذهول، ولأنهم طرف مهزوم فإن الناس لا يستمعون ولا يحترمون المهزوم.

واليوم نعيش مرحلة انطلاق الثورة الصناعية الرابعة والثورة الرقمية الخامسة للمعلوماتية، وعليه فإذا أردنا تأريخ المرحلة فهي الحرب العالمية الرابعة، وأيضاً دون صواريخ ولا قنابل نووية، لأن السلاح النووي أصبح سلاح ردع وليس سلاح حرب منذ أن تفلت هذا السلاح من عقاله، وأصبحت دول كثيرة حول العالم تمتلك السلاح النووي ضمن ما يسمى مجموعة النادي النووي وخارجها، والتاريخ اليوم يعيد نفسه مرة ثانية لكن على شكل (مهزلة)، وستفضي إلى:

١- هزيمة الاشتراكية الديمقراطية كنظام عالمي وانهيار مشروع أوربا الموحدة والحلم بديمقراطية تداول السلطة، ودخول منظري وفلاسفة الديمقراطية الجديدة في صراع المعركة الأخيرة أمام الرأسمالية المتوحشة، فيتحولون إلى منبوذين جدد، كما تحول منظرو وفلاسفة الشيوعية المهزومة إبان الحرب العالمية الثالثة.

٢- إعادة تشكيل مجلس أمن دولي جديد يعكس حجم وقوة كل واحدة من القوى الكبرى، وسيجري تقاسم العالم كل حسب حجمة وقوته العسكرية والعلمية والتقنية، ويعيد ترسيم حدود وطنية وهمية جديدة لدول العالم، لأن الحدود تحفظ لهذه الدول العظمى السيطرة والنفوذ. وبدلاً من منظمة حقوق الإنسان، ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي ومنظمة الأمن والتعاون الدولية وغيرها، ستنشأ وتحل محلها منظماتٌ دولية أخرى جديدة تعمل لصالح القوى الكبرى.

٣- الناس حول العالم يعيشون في عزلة (كورونية) بالترغيب وبالترهيب، وبدأ الناس بقبول مصطلحات جديدة لتوصيفهم مجتمعياً كمصطلح (حجر القطيع – مناعة القطيع) وهذا يعكس رؤية أباطرة المال والأعمال الذين سيقررون مصائر البشر، من يستحق أن يعيش ومن يجب أن يختفي من الوجود.

٤- الدول النامية بشعوبها وحكوماتها الهزيلة وحدودها التاريخية التي اعتادت الدفاع عنها وخوض الحروب واستنزاف الموارد والخيرات منها ستبقى في سباتها التاريخي إلى أجل غير مسمى، راضية بما قسم لها أسياد العالم الجديد. وعلى المدى المنظور هناك أمم وشعوب بكاملها على طريق الانقراض، ومنها بقايا رماد الأمة العربية لأنها لم تتطور ولم تتأقلم ولم تشارك في بناء الثورة الصناعية الرابعة أو ثورة المعلوماتية الجديدة.

أخيراً، هناك سؤال ساذج لكنه يبحث عن جواب: إذا كان طرفا الحرب يعرفون أنهم سيجلسون في نهاية الحرب المدمرة والطاحنة إلى طاولة المفاوضات وهذه الطاولة (لا أعرف ما إذا كانت مستديرة أم مستطيلة) هي نتيجة حتمية بعد الحرب، فلماذا يخوضون حرباً عسكرية مدمرة والجميع فيها خاسر؟ أليس ذلك ضرباً من البلاهة والجنون؟

العدد 1104 - 24/4/2024