ما بعد تقويض كورونا
د. سنان علي ديب:
الحروب وسيلة استخدام القوة لتحقيق المكاسب السياسية، وأهم برامجها الكسب الاقتصادي.
وسيرورة التطورات البنيوية لبلدان العالم فرادى، والتخندقات العالمية كفرق مجتمعة، تجعل أدوات الصراع تختلف زمانياً ومكانياً وكذلك التحالفات. ولطالما سمعنا عن تهديدات جرثومية من قوى الاستكبار العالمي، وكم من مرض خطير اقتنع الأغلبية بأنه صناعة مخابر للربح عبر العلاج، وتحديد أدوات الصراع يتحدد بالدول المستهدفة والتمهيد المناسب والتبرير المناسب من القيادة العالمية كدول بعد الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى تمركز الرأسمالية عبر المحتوى الإمبريالي في الفترة الأخيرة في حالة تضليل مقصودة عبر الضخ الإعلامي لما سمي العولمة التي كانت جسر عبور للوصول إلى الأمركة شبه المطلقة، وطالما كُيِّست العولمة وصُبغت بالمحتوى الإنساني نحو جعل العالم قرية واحدة وطالما خُدع كثيرون لتكون الولايات المتحدة المستفيد الأكبر عبر استثمار أدوات طالما كانت إمبراطوريات ودول عظمى، وبعد استثمار كل الأدوات الهادفة لمسخ الهويات وإزالة الحدود وتشويه الأديان وتعميم ثقافة العنف وتجهيل العالم عبر سياسة القطيع، وبعد أن قويت بعض الدول الطرفية البعيدة عن مركز القرار العالمي والممتصة لفوائض العالم وخاصة بشرق آسيا، وبعد أن كمل انتشار القوة العسكرية الامريكية وسيطرتها على منابع النفط وطرق نقله والمحيطات، وبعد أن كرست الاقتصاد الوهمي على حساب الاقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج، وبعد أن كرست مبدأ القيادة المنفردة للعالم عبر مؤسسات مسيطر عليها فرضت أجنداتها الاقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتحرير الاقتصاد بما يناسب المصلحة الأمريكية، وكل المؤسسات الدولية بما فيها مجلس الأمن، جاءت السنوات الأخيرة لتفريغ ما سمّي العولمة من محتواها، لإفهام الجميع أن الولايات المتحدة مالكة القرار ومالكة للعالم ولا تقبل إلا بدور موزع للفتات ولا تقبل بمحاصصات، وما شاهدناه من حروب فرض ضرائب ورسوم وتهديدات عسكرية ومضاربات تخفي وراءها السرقة المخفية لبورصات وأسواق مالية ولعب بأسعار الصرف، وافتعال أزمات وتهديدات لتجميع القطيع ببوصلة البرغماتية الأمريكية بعد ٢٠٠١ وغزو العراق وأفغانستان والتهديد باللعب بكل دواخل البلدان عبر فرز شخوص معولمة وخاصة اقتصادية ركيزة لها بكل البلدان، ومن يواجه ويقاوم يدمّر ويتحول لصحراء جرداء، وعبر قيادة الفوضى التي تضعف الجميع، وفي ظل تنامي وعي جمعي عالمي عانى من التدمير الممنهج المعولم لأغلب القيم والأخلاق وتعميم الفساد ونشر الثقافة الغرائزية بكل أبعادها، وبعد محاباة أعداء الأمس وإعطائهم أدواراً والبدء بتقويض أصدقاء الأمس وخاصة أوربا العجوز لما تمثله من ثقل اقتصادي، وما يدر تقويضها من مكاسب عبر ملء الفراغ، وكانت نقطة البدء عزل بريطانيا عبر الانسحاب من الاتحاد الأوربي دولة الرفاه والاقتصادات المعولمة عبر ألمانيا قاطرة نموها وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والدول الأخرى، وبالتالي الفوضى بدواخلها وزعزعة وحدتها ومحاصرتها وتقويض اقتصادها، ذات مردود مستقبلي كبير وتغيير عالمي مزهر، وهو ما ألفيناه وما تكرس بعد انعكاسات المرض الخطير الذي بدأ في الصين وتفشى في أوربا والعالم وسط عجز أوربي عن المواجهة من دون مساعدات الصين وروسيا وبنتائج اقتصادية واجتماعية خطيرة تمثلت بخسائر في كل القطاعات وبطالة مستفحلة وخوف كبير.
والكل يصرخ بأعلى صوته جازماً بما سيحصل وسط ترقب وضبابية لا تخلو من تصريحات واتهامات بين الدول وخاصة الصين والولايات المتحدة. ولكن العقلانية تقتضي الكلام الواقعي والتوقعات المعقولة، ولا جزم بالنتائج لأنه حتى بعز القوى المعروفة كانت البدائل هي التي توضع استراتيجياً عبر مقدمات ونتائج.
من المنطقي بعد كل الخضات والاهتزازات أن يعاد النظر بالصيغ الحاكمة للعالم وخاصة النظر في فكرة الرأسمالية كنظام قادر علي الإدارة الإنسانية وعلى أحقيته بالاستمرار في قيادة العالم البشري رغم توحش النظام ولا إنسانية مخرجاته ولكن من المنطقي عدم الحلم، بأن تكون الأنظمة الشمولية بديلاً عبر مساواة الوباء بين الطبقات وتحيزه ضد المرفهين سابقاً من كبار السن في بلاد الاغتناء، ولكن قد تقل سلطة القطاع الخاص وشراهته ويتراجع دور رجال الأعمال والسماسرة وربما تقل المدارس والجامعات الخاصة ليعود للتعليم الحكومي دوره البناء ولكن بطريقة أكثر وعياً وربما يعاد النظر بكل منظومات الصحة التي كانت عبارة عن تجارة وربح على حساب الإنسانية وتقويض دور القطاع العام الحكومي وجعل الموت عادة وانقطاع سبل العلاج اعتياداً، وما وجدناه من انتشار للمرض غالباً مبرمج
ربما قد يكون حروباً جديدة بعيدة عن الحروب التقليدية وحتى التهديدات النووية. وقد تعود الفكرة القائمة على أن الاستثمار الحقيقي للإنسان وإعادة القيمة للأنسنة بعد أن أصبح الإنسان الآلي هو الهدف والغاية لتوفير المال، ويعود العامل والحرفي والمزارع والطبيب والمهندس وغيرهم أدوات وغاية التنمية، وبالتالي يبقى السؤال الأهم كيف سيكون وضع العالم بعد الانتهاء من جائحة كورونا؟ هل سيبقى على حاله بتوازناته وضمن العقلية المتوحشة اللا إنسانية واللاشرعية غالباً؟ أم سيكون هناك السير نحو عالم جديد، وأكثر عدالة، وأقل حروباً، وأكثر توافقاً، وأقل وحشية، وأكثر إنسانية؟! أم سينجم زيادة من الغطرسة والتوحش والتوحد للولايات المتحدة الامريكية بسبب إضعاف منافس قوي ولو كان بخندقهم تاريخياً هو الاتحاد الأوربي وتقاسم أسواقه ومنتجاته ونفوذه مع دول نافذة كالصين وروسيا بدلاً من علاج منعكسات كورونا بسبب شح الموارد، وركود الاقتصاد العالمي، وكساد الأسواق، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة منسوب الفقر.
إن التغيير العالمي بحاجة إلى تحالف قوي يعمل لتقويض أدوات الولايات المتحدة المتمثلة بالسيطرة على المؤسسات الدولية عبر قوتها العسكرية، والسيطرة على الدولار وعلى الأسواق المالية العالمية وتوزيع أدوات بكل البلدان، وهذا يرجع لموقف كل من روسيا والصين واستراتيجيتهما. وما دام الدولار هو المسيطر والبورصات والأسواق المالية والمؤسسات الدولية مقوضة فلا جديد، وإنما العكس هو الأصح قبل تغلغل كورونا بالولايات المتحدة وضعت أجندة العلاج الاقتصادي وتفريغ انعكاساته الاجتماعية عبر ضخ ٢٢٠٠ مليار دولار واحتمال زيادتها إلى ٦٦٠٠ مليار، ولكن لننتظر الرسالة الوحيدة التي سطعت إن الداخل الأمريكي ليس بمأمن وهو ما كان بيضة القبان حروب بعيدة عنه.
من دون إعادة الهويات الوطنية وتفريغ العولمة من أدواتها بنهج اقتصادي يراعي الخصوصيات ومحقق للقضايا الشعبية الاجتماعية والاقتصادية وتقليل ارتباط الاقتصاد والمال بالشبكة العالمية والإحاطة بالفساد وإعادة تنشئة جديدة ضد ثقافة العنف والتجهيل وإرجاع روحانية الأديان وتقوية الأحزاب والمنظومات فالأمل قليل.
من دون مقاومة عالمية مبرمجة وممنهجة للولايات المتحدة، فالاتجاه نحو توحش أكثر وقد تخف عن الدول الطرفية بصراع الكبار.
المهم ما بعد كورونا هو تكريس لقوة الأمركة أم اتجاه نحو توازن دولي؟ والجواب بحاجة إلى معرفة قيادة العالم منظومة رأسمالية إمبريالية أمريكية أم عالمية؟!