حلف الناتو والعلاقات الأمريكية ـ الأوربية ليست على ما يرام
د.صياح عزام:
أعلن الرئيس الفرنسي قبل عدة أيام أن حلف شمال الأطلسي (مات دماغياً) بسبب عدم وجود تنسيق استراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها في الحلف، ووجه انتقاداً شديداً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، متهماً إياه بتحويل الحلف إلى مشروع تجاري لعقد الصفقات ودر المال لصالح بلاده، وجاء إعلان الرئيس ماكرون بمثابة قنبلة صوتية داخل الحلف.
وسبق هذا التصريح أو الإعلان عدة مواقف أوربية لافتة، تضمنت توجيه سهام نقد لاذعة إلى الحلف الأطلسي وخاصة إلى العلاقة مع واشنطن. وفي هذا السياق جاء الطرح الفرنسي حول ضرورة تشكيل جيش أوربي أو قوة دفاع أوربية ليكون بمثابة التمهيد لحملة تشكيك متواصلة في قدرة الحلف على مواكبة التحولات الجيوسياسية العاصفة في العالم، والتي تعمل على إعادة توزيع القوى وتعديلها ضمنه، وقد يكون إعلان ماكرون الذي نشر بالتزامن مع زيارته للصين تعبيراً عن هذا الوعي من الجانب الفرنسي، علاوة على ذلك تطرق الرئيس الفرنسي إلى السياسية التي يتبعها الرئيس التركي أردوغان التي تعد بلاده عضواً أساسياً في حلف الناتو وتدخلاته في الشمال السوري، وما يمكن أن ينجم عن هذا التدخل من مأزق للحلف، خاصة فيما لو نشب صراع عسكري واسع تورطت فيه تركيا، ولاسيما أن تركيا هذه لها سوابق متعددة في تهديد سياسة الحلف ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الأزمة التي اندلعت في عام 1974 عندا قام الجيش التركي بغزو جمهورية قبرص، وأنشأت أنقرة على إثر ذلك ما أسمتها دولة قبرص التركية! فعندما تصبح الدول الأعضاء في الحلف غير منضبطة وتتجاوز بشكل علني القانون الدولي، وتتصرف بشكل منفرد، فإن ذلك ينعكس على مصداقية الحلف ويضعه في دائرة الشكوك والريبة، كما يرى ماكرون. جدير بالذكر أنه مقابل هذه الأصوات الأوربية، كصوت ماكرون وغيره من الشركاء الأوربيين في الحلف والتي ترتفع ضد سياسة الحلف، يردد الرئيس الأمريكي ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض أن حلف الناتو أصبح يشكل عبئاً على الولايات المتحدة، ويطالب علناً أعضاء الحلف بتقاسم التكاليف.
إذاً، هناك تباين في وجهات النظر داخل دول الحلف، ازدادت بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
ومن الانتقادات التي يوجهها الأوربيون إلى الحلف، إنه قد تحول بشكل واضح إلى ذراع عسكرية تستخدمها وزراة الدفاع الأمريكية كما تشاء، ولأغراض ومصالح أمريكية محضة، فقد جُرّ الحلف إلى خوض حروب كثيرة عادت بالفائدة على واشنطن وحدها، وأن الحلف من خلال تدخلاته هنا وهناك لم يسهم في تحقيق الأمن الدولي المطلوب، بدليل النتائج الراهنة لتدخلاته في أفغانستان، ثم تدخله لاحقاً في ليبيا، إذ حوّلها إلى مرتع للإرهاب والفوضى والفشل. ونظراً لمثل هذا الإخفاق في مهام الحلف تصبح مراجعة سياساته وطرق ومجالات عمله أمراً ضرورياً ومشروعاً من وجهة نظر ماكرون وزعماء أوربيين آخرين يشاركون ماكرون وجهة نظره هذه تجاه الحلف.
وللعلم، أو بالأحرى للتذكير، فإن الموقف الفرنسي من الناتو موقف تاريخي قديم، فقد سبق للرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول أن أعلن انسحاب بلاده من الفعاليات العسكرية للحلف في عام 1966 احتجاجاً على هيمنة واشنطن ولندن عليه، وسق ذلك الانسحاب وأعقبه أيضاً سجال عنيف بسبب الإصرار الفرنسي على قطع العلاقات مع هذا التحالف، ووصل الأمر إلى درجة أن دين راسك (وزير الخارجية الأمريكي في الستينيات) لم يستبعد آنذاك أن يأمر الجنزال ديغول بسحب جثث الجنود الأمريكيين المدفونين في المقابر الفرنسية.
على ضوء ما تقدم، يمكن القول إن الغرب بشكل عام لم يعد على ما يرام، وإن الشواهد والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها المطالبات الأوربية بتصحيح العلاقات وتصويبها مع الولايات المتحدة، والمحاولات الأمريكية المتعددة لتجاهل الدول الأوربية وتحقيرها أحياناً، على غرار الوصف الأمريكي لأوربا بالقارة العجوز، ومطالبات ترامب لأوربا بدفع المال لقاء حمايتها، وبرفع التزاماتها المالية في الحلف، والحديث الفرنسي عن الناتو، ودعوة ماكرون لتشكيل قوة عسكرية أوربية مستقلة، كل هذا يشير إلى إمكانية حدوث تحولات مؤثرة في الغرب.