مرة أخـرى حول العلمانية!

السويد – طلال الإمام:

تدور سجالات عديدة في مختلف وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي حول العلمانية، كما بدأت تتشكل منتديات ومواقع علمانية، إضافة إلى تعالي صوت العلمانيين وإن بشكل خجول.

أعتقد أن كل ما ذكرناه هو خطوة إيجابية من المفيد استثمارها بشكل جيد من أجل تكوين رأي عام يطالب بدولة علمانية حقة. وهذه مهمة ملحة، ضرورية وصعبة في آن. لا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة تتسع لتشمل عدة بلدان (مصر، سورية، لبنان، العراق، تونس، المغرب)، عانت في السنوات الأخيرة، ومازالت تعاني، من عنف التيارات الدينية المتشددة والسلفية.

لكن، كما في كل نقاش حول ظاهرة اجتماعية جديدة، تظهر خلال السجالات آراء متنافرة، متباعدة، جيدة، مضرّة، خبيثة وبريئة. هذا كله باعتقادي أمر عادي، لكن لا يجوز الاستسلام له. أقصد إن واجب من يخوض نقاشاً عن العلمانية أن يتحلى بالصبر وطول البال، بالحياد، والموضوعية، والابتعاد عن التشويه، مقصوداً كان أم عفوياً، وعن كل ما يلحق ضرراً بهذا المفهوم.

يمكن ملاحظة عدة اتجاهات لدى تناول هذه المسألة:

هناك من يتناولها بشكل صحيح، موضوعي، مبتعداً عن كل ما يسيء للفكرة، كما يساهم في توضيحها بالكلمة أو الفعل. هؤلاء لا يدخلون في نقاشات جانبية بعيدة عن العلمانية، لا يمارسون أي استفزاز لمشاعر الناس سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، ويسعون قدر الإمكان إلى إعطاء هذا المفهوم حقه في التوضيح والنقاش الموضوعي بعيداً عن أي تجييش أو تشنّج.

وهناك من يربط العلمانية بالإلحاد والتفسخ الأخلاقي، ويشن حرباً شعواء ضدها.

وهناك من تعني العلمانية له مهاجمة الأديان والطوائف الأخرى وتبييض صفحة دينه أو طائفته.

وهناك من يخلط بين العلمانية والقومية أو الوطنية.

هناك من يعتبرها إيديولوجية للحكم وليست وسيلة لإدارة المجتمع، وما إلى ذلك.                                                                                                                       من جهتي، أعتقد أن العلمانية، بتبسيط شديد ودون الدخول في الأسس التاريخية أو في مفهوم المصطلح أكاديمياً، وهذا نجده بسهولة في كثير من المواقع وفي الإنترنيت بشكل خاص، العلمانية كما أراها تقوم على:

فصل الدين عن مؤسسات الدولة كلها: التشريعية، السياسية، والاقتصادية، وعن التعليم بشكل خاص.

عدم تسييس الدين أو تديين السياسة، بمعنى كفّ تدخل رجال الدين في شؤون الدولة ومؤسساتها، وحصر دورهم في دور العبادة.

إلغاء مفهوم الأقلية والأكثرية الدينية أو الطائفية من الدستور، وترسيخ التعامل مع جميع مواطني الدولة بمساواة، لكل منهم الحقوق ذاتها، وعليهم الواجبات ذاتها، بمعنى من حق أي مواطن أن يشغل أي منصب في الدولة بغض النظر عن انتمائه الديني أو الطائفي، أو سواء كان رجلاً أم امرأة.  الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، وحقوق الطفل والمرأة استناداً إلى المواثيق الدولية.

العلمانية تكفل حق المتدينين في ممارسة شعائرهم الدينية في دور العبادة بحرية تامة.

الدولة العلمانية تمنع تأسيس أحزاب على أسس دينية أو طائفية.

من الضروري تخليص البرامج التعليمية في كل المراحل من أية بروباغندا أو تجييش ديني، وتدريس الديانات كجزء من مادة العلوم الاجتماعية، مع ضرورة إلحاق كل المدارس الدينية بوزارة التربية والتعليم، وإلزامها بتدريس المنهاج الرسمي فقط.

إفساح المجال أمام العلمانيين للوصول إلى وسائل الإعلام الرسمية والخاصة أسوة بالبرامج الدينية التي تبث من تلك الوسائل.

كما نرى فإن تحقيق هذه الخطوات أو جزء منها أو حتى تكوين رأي عام مؤيد لها يحتاج إلى جهود كبيرة ومضنية، ودراية بالأمر، والصبر والإيمان بان مسألة النضال من أجل العلمانية جزء متمم للنضال ضد الجهل، الفقر، المرض، الفساد، الإرهاب، ومن أجل التقدم الاجتماعي الاقتصادي والعلمي، بكلمة من أجل التطور المنشود.

أخيراً، يجب على العلمانيين الذين يخوضون هذه المعركة الابتعاد عن النقاشات والتجاذبات الدينية أو الطائفية التي تبرز بشكل مباشر أم غير مباشر، ذلك أن الدخول في دائرة نقاشات من شاكلة: هذا الدين أو ذاك أو هذه الطائفة أو تلك لا يقول ذلك، والرجوع إلى حوادث تاريخية عمرها آلاف السنين، أو محاولة إلقاء تهمة التطرف الديني على هذا الدين أو ذاك فقط … إن الدخول في هذه النقاشات يعني نجاح الأطراف الدينية المتعصبة في جرّ النقاش لدائرتها، وهذا يؤدي إلى جدال عقيم يلحق ضرراً وتشويهاً  بمجمل مسيرة العمل من أجل العلمانية.

نعم، من المفروض إعادة قراءة، كتابة تصحيح أو تقويم بعض الشخصيات الدينية أو الحوادث التاريخية، لكن ذلك يتطلب وجود مؤسسات وشخصيات موثوقة، علمية، مستقلة ومحايدة، بعيدة عن روح الثأر أو التعصب، تمتلك وثائق تاريخية لتأكيد صحة ما تخلص اليه من نتائج، وهذا يتطلب وقتاً ليس بالقليل وصبراً.

فهل نفعل؟

إنه نداء لكل من يخوض غمار العمل من أجل العلمانية، إذا كنا نبغي فعلاً تحقيق هدفنا المشترك: العلمانية.

أرحّب بآرائكم!

العدد 1104 - 24/4/2024