شحود شحود.. ابن الأرض.. ابن الشعب

يونس صالح:

سورية، في بداية العقد الخامس من القرن العشرين، كانت لا تزال خاضعة للسيطرة الاستعمارية الفرنسية، وإن كانت تباشير الاستقلال تلوح في الأفق، بفضل النضال الدؤوب الذي خاضه الشعب السوري على امتداد عشرات السنين ضد المحتلين، وبفضل التضامن الأممي الذي حصل عليه من قوى الحرية والديمقراطية في العالم، وعلى الأخص الاتحاد السوفيتي، الداعم لكل حركات التحرر الوطني، بيد أنه كان على الشعب السوري أن ينتظر ست سنوات لاحقة كل يحصل على استقلاله الناجز، وكان عليه أن يقدم التضحيات الجسام على مذبح الحرية كي ينالها، في هذه الظروف القائمة بالغة التقعيد حين كانت تستعر الحرب بين الدول الاستعمارية المختلفة من أجل إعادة تقاسم العالم، وعلى أطراف جبال الساحل السوري الغربية الجنوبية وفي قرية عش الشوحة التي وهبتها الطبيعة جمالاً رائعاً شوهته العلاقات الإقطاعية السائدة المدعومة من المستعمر، والفقر المنتشر أينما حل بين أناس هذه المنطقة الطيبين، ولد الطفل شحود شحود عام 1940 في أسرة فلاحية كادحة مثلها مثل الكثيرين من الأسر الأخرى، ومنذ فتح عينيه على الحياة رأى المعاناة التي كانت تعيشها جماهير قريته والقرى المجاورة، رغم ما أعطته الطبيعة لهذا الريف من ثراء، رأى بأم عينيه ظلم الإقطاعيين المدعومين من المستعمر، ورأى الجهل والمرض والبؤس تحيط به وبأسرته من كل جانب.

كان يحلم بالدراسة، لكن واقع أسرته الصغيرة لم يكن يسمح له بتحقيق حلمه، إلا أن عطشه للتعليم والعلم الذي ظل يرافقه طيلة حياته، دفعه بإصرار كي يتخطى هذه الصعاب، واستطاع أن يحصل بداية على الشهادة الابتدائية آنذاك، رغم انخراطه مبكراً في الحياة العلمية لأجل مساعدة الأسرة، إلا أنه في نهاية المطاف حصل أيضاً على الشهادة الإعدادية، وهذا كل ما كان يمكن أن تقدمه الأسرة لهذا اليافع الذي سيصبح فيما بعدم مناضلاً التصقت جذوره عميقاً بالأرض وبكادحي وطنه جناة الحياة.

وبسبب انسداد مجالات العمل في قريته، يضطر للسفر إلى دمشق، وتساعده الظروف كي يصبح عاملاً في الشركة العامة للغزل والنسيج (الدبس) ويتعرف على شركائه في العمل، ويتقاسم معهم هموم الحياة القاسية التي يحيونها، ويتعرف تدريجياً من خلال بعض العمال الطليعيين على الأفكار الاشتراكية التي تدعو للعدالة، وتجيب عن الأسئلة التي كانت تتفاعل لديه عن أسباب هذا الشقاء الذي يحيط بغالبية أبناء شعبه وعن التمايزات الاجتماعية الفاقعة، وعن الثراء الفاحش الذي كان يعيشه البعض. وينجذب هذا الشاب إلى هذه الأفكار بكل أعصابه وبكل أفكاره، ويرى نفسه منخرطاً في هذا التيار الذي كان يلف العام بأسره.

يستطيع هذا الشاب أن يحصل على الشهادة الثانوية عام 1960، ويدفعه طموحه للدفاع عن وطنه وشعبه للتطوع في الجيش ويتخرج في الكلية الحربية برتبة ملازم، إلا أن الأمر لم يطل معه، فقد أُبعد عنه. ومن جديد يبدأ البحث عن العمل والمطالبة به، وأخيراً يتم تعيينه مديراً للتموين متنقلاً في محافظات حمص وإدلب والرقة.

في سياق نشاطه في الدولة لم يتوقف مطلقاً ًعن النضال من أجل مصالح شعبه الكادح، ولقد وهب حياته كلها من أجل ذلك، وقف ضد محاولات المحتكرين في عدوان حزيران عام 1967 استغلال ظروف الحرب لجني الأرباح من قوت الشعب.

اعتقل أكثر من مرة لصلابته في الدفاع عن قناعته ومثله وثقته المستقبلية بانتصار مبادئ الحرية والعدالة، لم يسع بعد انتسابه إلى الحزب الشيوعي إلى مراكز قيادية، كان هدفه هو أن يدافع دون كلل عن مثل الحزب وقيمه، في الموقع الذي يكون فيه.

إن الحياة الصعبة، والقاسية التي عاشها هذا الشاب النبيل والمرهف والتي وهبها بكل ما يستطيع للنضال من أجل مصالح الوطن والشعب كان لابد أن تؤثر على جسده المنهك، فظهرت عليه أعراض مرض عضال وفي 24/12/1974 يغادر الحياة وهو لا يزال في ريعان شبابه.

في قريته كانت تنتظره حشود كبيرة جاءت من مناطق كثيرة مجاورة لتودعه الوداع الأخير، وقد لفها الحزن العميق.

كانت حياته قصيرة، إلا أنها غنية غنى الحياة وجميلة كجمال الأسطورة، لقد بكاه الرفاق والأصدقاء، ولكنه أوصى أن لا يوضع على جثمانه أكاليل الحزن. عاش من أجل الفرح، وغادرها من أجله، فلتبقَ ذكرى هذا الابن البار للشعب باقية بقاء الحياة، واستمرار نضال البشرية من أجل المستقبل المشرق.

 

العدد 1102 - 03/4/2024