باختلاف الألوان تزهو الحياة

إيناس ونوس: 

في مجتمعاتنا تربطنا علاقاتٌ تحكمها العاطفة قبل أيّ اعتبار آخر، فتَرانا نرغب ونَنشّدُ للتواصل مع من نتوافق معه ويتوافق معنا، ونبتعد عمّن يُخالفنا الرأي أو الاعتقاد أو…، تقوم هذه العاطفة غالباً على مبدأ المحاباة وليس الحب، أي المسايرة وإغفال السلبيات طوال مدة العلاقة، حتى إذا كان الخلاف ظهر كل ما كان مُغيَّباً سابقاً، فتكون الخلافات حادّة قد تصل إلى مواصيل خطيرة، الأمر الذي تجلّى في السَّنوات السَّابقة خلال الحرب الشَّعواء التي عشناها جميعاً ولمَّا نزل اليوم نحصد نتائجها.

أحد أهم أساسيات المحاباة تلك هو الكذب والنِّفاق، والنَّميمة التي تتبلور في غياب الآخر المختلف سواء بالدين أو المنطقة، أو بالرأي أو الفكر أو…إلخ. فإن ألقينا نظرة على الظَّاهر من علاقات مجتمعنا قبل تسع سنوات لوجدناها مُكلَّلةً بالمحبة والتآخي والهدوء، بينما بدا العكس جليّاً واضحاً ما إن أُشعِل فتيلٌ صغير.. وأخذ بعض الناس يكشفون ما في أعماقهم من مشاعرَ سلبيةٍ ونفورٍ، وفي بعض الأحيان حقدٍ دفينٍ تجاه الآخرين الذين كانوا بالأمس القريب أقرب المقرّبين، الأمر الذي أدى لسيلان المزيد من الدِّماء وغياب الكثير من الأشخاص عن عوائلهم، لا بل عن الحياة كلِّها. يُضاف عاملٌ آخر إلى تلك الأساسيات ألا وهو تغليب مصلحة الأنا على المصلحة العامة واعتماد مقولة (أنا ومن بعدي الطوفان)، حتى لو كان الأخ أو القريب أو صديق العمر هو من سيأخذه ذاك الطُّوفان إلى غياهب مجهولة!!

كل هذا مردّه التربية التي تبدأ أولاً من الأسرة الصغيرة ويكمِّلها المجتمع باعتباره الأسرة الأكبر. ذلك أنّنا لم نعتد قبول الرَّفض أو مخالفة الرَّأي أو قول كلمة (لا)، بل نطلب الطَّاعة العمياء على الدَّوام، فالأهل في البيت يرغبون بالأبناء الذين يوافقونهم بكل شيء، ولذلك نجدهم مرتاحين في تربيتهم، بينما يشتكون من أولئك الذين يقولون (لا) ويخالفونهم. وتبدأ دوَّامة التَّدجين حتى يصلوا إلى النَّتيجة المطلوبة، والأمر ذاته يتكرّر في المدارس والجامعات وفي العلاقة بين المدرسين والطلاب، ويكبر الأمر أكثر فيعمُّ المجتمع برمته وفي كل مفاصله من مؤسسات وبُنى مجتمعية وحكومية ليُصبح الجميع بلونٍ واحدٍ وشكلٍ واحد. فالمسؤول يطالب بالطَّاعة دوماً بغضّ النَّظر إن كانت مُترافقةً مع قناعةٍ أم مع مُحاباة. ويتعامل مع كل من يخالفه الرأي وكأنه خصمٌ شخصي أو عدو مباشر. ويبدأ الدُّخول في علاقة الرَّفض القاطع من قبل كلا الطَّرفين، غير مُدركين أن الاختلاف القائم على الوعي والرَّغبة بالنمو والتَّطوير واكتساب مهارات جديدة يعود بالفائدة على الجميع بلا استثناء، ويكون سبباً مباشراً من أجل بذل المزيد من الجهود والطَّاقات وإبراز الأفضل دوماً. فقبول الرأي الآخر أحد أهم عوامل البناء سواء الذَّاتي أو المجتمعي، وحينما نصادف من يخالفنا وجهات نظرنا فإنه يكشف لنا جوانب ومجالاتٍ ربما لم نكن منتبهين لها أو لا نعلم بوجودها، ما سيدفعنا للمزيد من التَّعلُّم واكتساب المهارات، ما سينعكس بالضَّرورة علينا جميعنا. وهذا يعود للتَّربية أولاً ليُصبح فيما بعد ثقافة مجتمعية كاملة، فإن أردنا الخروج حقيقةً من بوتقة ما نحن فيه، فالأمر سهلٌ برغم كل الصُّعوبات التي تحيط به، وهو أن نبدأ بقبول الاختلاف والفوارق بين الأجيال واحترامه واعتماده كشكلٍ أساسٍ من أشكال بناء أي علاقة خلَّاقة (أسرية كانت أم مجتمعية)، شريطة أن يكون قائماً على النَّوايا الحسنة والحب والرَّغبة برؤية الآخر في أفضل حال، بدءاً من العلاقة الزوجية، إلى علاقة الآباء بالأبناء، انطلاقاً إلى المجتمع الخارجي بدوائره المتعددة والمختلفة والمتنوعة، وصولاً إلى أعلى مستويات العلاقات الناَّظمة لهذا المجتمع. فحين يخالف الشَّريك شريكه ويختلف معه في أمرٍ ما قد يكون على صواب، وبالتالي يعمل على تصحيح خطأٍ ما، وكذلك حينما يعترض الابن على رؤيا الأهل فلأنه ينتمي إلى جيلٍ مختلفٍ بمعاييره ومفاهيمه، وربما يكون تراجع الأهل عن بعض آرائهم وموافقتهم إياه يصبُّ في مصلحته التي يعملون من أجلها، وغالباً ما يجعل العلاقة معه أكثر هدوءاً واستقراراً، وهذا ما ينعكس على كل أشكال العلاقات الأخرى لنصل إلى المجتمع الذي نحلم به ونتمناه جميعنا، لأن التَّغيير أداة تلوين الحياة وتجديدها. بينما نجد العلاقات التي تعتمد نمطاً واحداً أو شكلاً واحداً تعيش حالةً من الرَّتابة، وهي ستفضي بشكلٍ أو بآخر إلى تنامي ثقافة الكذب والخداع والمحاباة، أضف إلى أن الاختلاف لا يعني العداء بالضرورة، وليس هدفه تحطيم الآخر أو النَّيل منه ومن قدراته وإمكانياته إلاّ إن استُخدم لأغراضٍ سلبيةٍ. فلولا هذا الاختلاف لما تطوَّرت دولٌ وبقيت أخرى في القاع.

إذاً، فلنبدأ بتقبُّل المُغاير لنا ولننظر إلى الجوانب الإيجابية فيه فنقنع به ليساعدنا على رؤية الحياة بصورة إيجابية أكثر انفتاحاً ووعياً وجمالاً.

العدد 1104 - 24/4/2024