من القلب إلى القلب | اتحاد الكتاب العرب في العيد الذهبي: كيف كان المثقف السوري، وكيف صار!

عماد نداف:

نشر الباحث السوري عبد الله حنا في أحد كتبه مجموعة وثائق، من بينها أربع وثائق تتعلق باتحاد الكتاب العرب في سورية، والوثائق تعود إلى أيلول عام 1954، وفي هامش الوثيقة الأولى نقرأ عبارة مهمة تقول:

(كان من إحدى تجليات النهوض الوطني العربي في منتصف القرن العشرين حدث انعقاد مؤتمر الكتاب العرب في دمشق من 9 إلى 11 أيلول 1954).

ومن المعطيات المتعلقة بذلك المؤتمر وجود كتاب عرب بارزين مشاركين فيه من بينهم: اللبنانيون مارون عبود والشيخ عبد الله العلايلي وحسين مروة وأحمد سويد ورضوان الشهال ومحمد دكروب وحبيب صادق. والمصريان الدكتور يوسف إدريس وأحمد صادق. والعراقيان غائب طعمة فرمان ومحمد غني حكمت. والأردنيان الدكتور عبد الرحمن شقير والدكتور نبيه رشيدات.

وفي القائمة الكبيرة للكتاب السوريين المشاركين نقرأ أسماء: حنا مينة وسعيد حورانية وشوقي بغدادي وعادل أبو شنب وحسيب كيالي ووصفي القرنفلي وخليل هنداوي وشاكر مصطفى ومدحت عكاش وصلاح دهني وعبد المعين ملوحي ومحمد علي الزرقا واليان ديراني وسعد صائب وصميم الشريف.

وقدم المؤتمر نصيحة تنظيمية لافتة للكتاب العرب في دولهم جاء في مضمونها: (الدعوة لإنشاء رابطة للكتاب العرب في كل بلد عربي تحت اسم: رابطة الكتاب العرب)، فماذا تعني هذه الوثائق والمعلومات البسيطة في سياق الاستعداد للعيد الذهبي أو العيد الخمسين لاتحاد الكتاب العرب في سورية؟!

هذه الوثائق تعني أن المثقف السوري كان قادراً على المشاركة الفعالة في تجليات النهوض الوطني العربي (والعبارة ليست لي كما أشرت)، وكانت سمعة كتّابه الكبار قادرة على استقطاب خيرة كتاب العرب بمختلف تطلعاتهم، أي كان الاتحاد منارة حقيقية في الثقافة العربية: قويّاً، فعّالاً، مبادراً تنويرياً، وشجاعاً أيضاً. أسس مشروعه وبرنامج عمله على أفكار تستند إلى رؤية واضحة منتمية ومؤصلة ومتنورة، وعلى وجود قامات ثقافية وفكرية وأدبية معروفة من الوطن العربي، تلتف حول مشروع واحد عاصمته دمشق.

وعندما نقول (دمشق عام 1954) فهذا يعني أننا في مرحلة مهمة من النهوض نعتز بها في سورية، وأهم ما فيها أنها هيأت المنطقة لرفض المشاريع الاستعمارية وبنت تجربة حية على الفكرة القومية قامت على أساسها وحدة سورية ومصر عام 1958 أي: (الجمهورية العربية المتحدة)، وأسست لتعاطٍ قومي مع قضية كبيرة فأصبح هذا التعاطي ثابتاً من ثوابت الأمة اسمه (القضية المركزية فلسطين).

ما أريد قوله، أن المثقف السوري بمختلف تصانيفه، ونماذجه كان واضحاً في كل اسم من الأسماء التي أوردتها، فكان في الصدارة، وكان قادراً على الفعل والتأسيس لفعل متجدد على مختلف الصعد، وكان في تنوعه قادراً على تمثيل مختلف الاتجاهات السياسية الوطنية الفعالة، في بلده، في ذلك الوقت.

في العيد الخمسين لاتحاد الكتاب العرب الذي نعيشه هذا العام (2019)، نرى المثقف العربي بشكل عام مهزوماً ومعزولاً وعاجزاً ومكبلاً بشروط عمل وأداء ثقافي وفكري مرتهنة لغير أفكاره الحقيقية، كان ينبغي ألا يقبلها، وأن يعمل بقوة على تغييرها. وأهم مؤشر على حال هذا المثقف أنه خسر قوّته التي صعد بها إلى الواجهة الاجتماعية والثقافية في المراحل الأولى من الحياة الثقافية العربية في مرحلة التحرر الوطني، وهو اليوم بحاجة إلى وقفة مهمة جداً تعيد تقييم ما جرى وما يجري ليستطيع العودة إلى دائرة الفعل والمساهمة في إيجاد مخرج حقيقي للاستعصاء العربي الكارثي الذي ينعكس علينا جميعاً.

والمثقف السوري، في هذا الإطار، نجده وقد انكفأ عن دوره، وحالت الظروف، وهي ظروف شبيهة بما عاناه شقيقه العربي، دون حركته ودون متابعة الدور الذي انطلق به وحلم من خلاله بمستقبل ذي أفق تنويري وطني.

ومن سمات هذا المثقف اليوم أنه مقسوم ومشتت، وهناك جزء منه عاجز أصابت رؤيته الضبابية المغشوشة للحرب وطبيعتها وأفقها مقتلاً منه، ففقد المصداقية ولجأ إلى الخارج لأنه وقع في دائرة الضلال (تضليل خارجي، وتضليل داخلي/ذاتي)، فضاع. وهناك من باع نفسه وأفكاره ليأكل وهو يعرف أن (الحرة تجوع ولا تأكل بنهديها).

أما الجزء الآخر، فهناك جزء كبير منه موجود في الداخل، وينضوي تحت تصنيفين، أو نوعين إذا جازت التسمية، نوع ضائع تتجاذبه تيارات كثيرة، أحدها نوستالجي يأخذه الماضي إلى حديث عن ديمقراطية تتيح له أن يستعيد شكري القوتلي ورشدي الكيخيا وناظم القدسي، فيجلس في البرلمان خالد بكداش مع عصام العطار مع أكرم الحوراني مع ميشيل عفلق فيتحاورون في مشاريع الخارج المطروحة عليهم، وكلٌّ يقاومها من موقعه. وآخر مهزوم وخائف أضاع المجتمع النموذجي الذي يحلم به، فإذا به يعود للتمسك ببيئته الاجتماعية قبل الوطنية، وهي بيئة مؤطرة بالإثنية والعشيرة والطائفة، وهذا الجزء من المثقفين خطير بخطورة الجزء الذي ضلله الخارج فضلل ذاته وآخرين معه.

ومن هذا التيار مثقفون دخلوا في لعبة الفساد والمصلحة والسوق، أو أنهم ندموا على عدم الهجرة، وهم هنا يشبهون مريضاً في حالة العناية المشددة، يمكن أن ينجو ويمكن أن لا!

أما النوع النظيف الذي يستمر قلبه في النبض وأوعيته لازالت تتسع للحلم فهو قليل، يعيش كباقي فئات الشعب يبحث عن زيادة في الدخل، وعن آلية لمواجهة وحش الغلاء، وعن محاربة تنين الفساد، وتضيق طموحاته لتصل إلى البحث عن وسيلة نقل توصله إلى البيت حتى لو تدافع الناس فوقه واصطدم رأسه في سقف الميكرو الكوري أو الياباني، أو دفعه شاب أحمق فرمى الكتب والصحف من بين يديه.

ونرى في هذا النوع أحياناً من يبيع كتبه أو مقالاته بأي ثمن، كي يعيش دون سرقة، ولكي يدفع فواتير الماء والكهرباء والهاتف ولكي يشتري الطعام لأسرته، وهو يبدو هنا كربة بيت شريفة تبيع (أساورها وخاتمها) عند الحاجة لتقي نفسها شر الفقر.

هذا المثقف موجود بيننا، يقطن بين سكان لا يعرفون قيمته تماماً كالسلطات التي شغلتها الحرب عن كثير من المهمات الضرورية في المجتمع، ومن بينها أهمية المثقف(!!!).

علينا أن ننتبه إلى أن هذا المثقف (ورغم هذا الوضع المأساوي) يريد التغيير والتمسك بثوابت الهوية السورية الوطنية المنفتحة، مع تنظيفها من عوالق الحرب والتضليل الإعلامي والفساد والانتهازية والفردية، ويسعى ليعيد الشريحة التي ينتمي إليها إلى دائرة الفعل الوطني في أصالتها وتنوعها وانفتاحها على الآخر.

وهذا المثقف نوعي يحتاج إلى ثقة الآخرين به وإلى حرية ثقافية وسياسية واسعة ودعم غير محدود من قبل السوريين، وينبغي على السلطات ألاتخاف منه أبداً، فالمثقف عندما يشتغل ضمن دائرة الانتماء الوطني لا يخيف المجتمع الطموح ولا يضعف سلطاته الوطنية، وإنما يخيف المجتمع المغلق الذي لا يريد أن ينفتح على العالم.

ينبغي أن لا نخاف منه حتى لو كاسر التابوات في حياتنا، سواء تلك التي وضعت منذ زمن السلطان سليم، أو تلك التي وضعناها نحن، بل إن هذا المثقف يمكن أن يتحول تلقائيا إلى رافعة حضارية في المجتمع الذي يرسم مشروعاً ضخماً لإعادة بناء ما هدمته الحرب.

ينبغي أن ندافع عن المثقف الوطني بكل ما لدينا، لكن ينبغي على هذا المثقف ألا يخاف، وليس ثمة شيء يخاف عليه السوري بعد هذه الحرب الصعبة، سوى الوطن!

(يتبع …)

العدد 1102 - 03/4/2024