الكتاب المؤجل
شروق ديب ضاهر:
أطفأ رِضَا لفافة التبغ في صحن السجائر الممتلئ ببقايا اللفافات ونهض واقفاً، تسمّرت عيناه على الباب المؤدي إلى الشرفة، أحس بالتشنج يعتري جسده من أسفل قدميه حتى ناصية جبينه البارد المتصبب عرقاً، هي بضع خطواتٍ يفتح بعدها باب الشرفة ويلقي بنفسه من الطابق السابع، ليضع حداً لحياته التي يعتقد أن تجربة الموت ستكون أرحبُ سعةً من ضيقها وضنكها، ما عاد يشعر بفائدة ترجى من وجوده فوق المدوّرة، ذَكَرُ النمل بالنسبة إليه كائن أكثر فائدة منه.
لم يستطع تجاوز السنة الأولى في دراسته الجامعية بينما أضحى أقرانه على أبواب التخرج، كان يتمنى أن تطرق الشرطة العسكرية بابه وتسوقه إلى خدمة العلم، لكن لم يتسنَّ له أن يكحّل عينيه برؤية قبعاتهم الحمر، فهو بكر والديه الوحيد، يتلوه على دفتر العائلة أسماء أربع أخيّاتٍ، رغم ذلك حاول الالتحاق بـ (الدفاع الوطني) علّه يكون ذا نفعٍ، لكن قدميه المسطحتين ولعنة الجنف التي ابتلي ظهره بها حالتا دون ذلك، خطوط التماس مع الموت بدخانها وبارودها رفضت احتضانه، حتى حبيبته الافتراضية على وسائل التواصل الإلكترونية قامت بحذفه من قوائم صفحاتها بعد أن عرفت أن جيوبه فارغة إلا من أبيات الشعر وعبارات الغزل التي يقوم بسرقتها من مواقع التواصل الاجتماعي. حاول والده توظيفه لكنه باء بنفس الفشل الذي باءت به محاولاته لإدراج اسم صبيّ ثانٍ على دفتر العائلة، لم يعد رضا يجيد في هذه الحياة سوى قرقرة النرجيلة وقرقعة المتة، وأضحى يشكّل معهما ثالوث الفراغ والملل والضياع.
وقف على الشرفة زائغ النظرات مرتجف القدمين، قبض بكلتا يديه على المعدن البارد وفكر في قرارة نفسه المضطربة: فليسامحني الجميع وليسامحني رب الجميع، إما أنني لا أستحق الحياة أو أنّ الحياة لا تستحقني، وفي كلتا الحالتين تكون كفة الموت هي الأرجح في ميزان وجودي التافه. أسند ساقه على حافة الشرفة ودفع بجسده الى الفراغ، أحس بلحظةٍ انعدمت فيها الجاذبية، ثم شعر بنفسه تهوي في فجوة الزمن السوداء لترتطم بالقاع ارتطاماً مدوياً أطبق أضلاعه على بعضها، انبجست روحه من بين أورابها المتكسرة، ووقفت تنظر إلى الجثة الهامدة التي كانت قبل لحظاتٍ مسكناً لتجلياتها، نظر مذهولاً إلى جسده المهشم المدمى، ثم أشاح بنظره إلى الجهة المقابلة، كان الفضاء مخضّباً باللون الأحمر القاتم، لا وجود للشمس أو ضيائها، آلاف الناس يتجمهرون في ساحةٍ لا حدود لها ويسيرون عراةً نحو بوابةٍ عالية، هو العالم الآخر وهي ساعة الحساب، تلك البوابة لا بد أن القائمين من موتهم يمرّون عبرها إلى صراط الاختبار المستقيم، وسدنتها ينظمون عبورهم المتدفق. أراد التوجه إلى البوابة لكن شيئاً ما يمنع قدميه من الحركة، تحدث الى سريرته: طبعاً، مؤكد أنا لا أستطيع الخوض الى البوابة مع الخائضين، أنا ممنوع من السير على صراط الاختبار لأنني وضعت حداً لحياتي بنفسي متحدياً القدر، لا بد أنهم سيأتون ويسوقونني مباشرة الى بوابة الجحيم، كنت عديم النفع في حياتي الدنيا وسأقضي آخرتي أُعاقب في الجحيم على عدم نفعي إلى الأزل. قطع تفكيره صوتٌ مدوٍّ ملأت قعقعته الآفاق: رضاااا، رضااااا! إنهم سدنة الجحيم ينادونه، جهنم تطلب وقودها، شعر بيدٍ ملتهبةٍ تطبق على كتفه الأيمن، التفت فوجد أمه تمسك كتفه صارخةً: ألا ترى الناس هرعوا وتجمهروا في الساحة أمام باب مركز البطاقات الذكية، بينما تتشبث أنت بحافة الشرفة كالقرد تريد ممارسة الرياضة! نظر إلى الساحة وقد تجمهر الناس أمام مركز إصدار البطاقات الذكية، فتح بصعوبة أصابعه المتشنجة القابضة على معدن الشرفة، وأعاد ساقه المتيبسة على الحافة إلى الأرض، قبّل وجه أمه المتجهم وهرع باتجاه باب الدار، توقف للحظة قبل خروجه ونظر إلى نرجيلته المذخرة المنتصبة في الزاوية: انتظريني أيتها الغيداء، سأعود إليك عَود الفاتحين المظفرين مكللاً بالغاز أقصد بالغار! سأقتحم جموع الحشر في الأسفل وأعود ببطاقتي ملأى غازاً وكازاً وأملاً، سأثبت للعالمِين في العالمَين أنني ذو شأن ونفع وفائدة، قادمٌ إليك أيها الساح، عائدٌ إليكِ أيتها الحياة!