خطوة أمريكية متهورة

د. صياح عزام:  

ضمن مسلسل الانسحابات الأمريكية من المعاهدات والاتفاقات والهيئات الدولية، جاءت الخطوة الأمريكية الأخيرة بالانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، التي كان قد وقّع عليها الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان والرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف عام 1987، أي في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، وذلك كمؤشر على أن العالم وكأنه يسير بشكل متسارع نحو مزيد من المواجهة النووية إذا لم يُفرمل هذا الاندفاع الأمريكي الذي يهدد العالم بأسره.

بطبيعة الحال، فإن العلاقات الأمريكية الروسية متوترة أصلاً، وجاء هذا الموقف الأمريكي الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأعلن من خلاله انسحاب بلاده من المعاهدة المذكورة أعلاه (معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى)، من جانب واحد، جاء ليضيف تعقيداً إضافياً إلى العلاقات بين موسكو وواشنطن.

لقد برر الرئيس ترامب خطوته هذه بكونها – حسب ادعائه- تأتي رداً على ما أسماه انتهاك روسيا للاتفاقية، إذ اتهم موسكو بأنها طورت صاروخاً متوسط المدى يمكنها من تنفيذ ضربات نووية ضد الولايات المتحدة وحلفائها بعد إشعار قصير الأجل لا يسمح لهذه الدول بالاستعداد لمواجهتها.

روسيا رفضت تفسير ترامب هذا، ورأت فيه أنه يشكل رسالة واضحة بأن سباق التسلح النووي سيستمر، ولن يتوقف، حتى إنه يؤسس لبداية عالم أكثر خطورة في المستقبل، خاصة مع تعهدات ترامب بتكثيف نشاطات بلاده على مستوى ترسانتها النووية للضغط على روسيا والصين (حتى يستعيد الجميع رشدهم) حسب تعبيره! علماً بأن الصين لم تكن طرفاً في هذه المعاهدة.

بطبيعة الحال، روسيا لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه الخطوة التي أقدم عليها الرئيس ترامب، بل هددت بالتعامل بالمثل، وهذا حق لها، الأمر الذي دفع مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون إلى القيام بزيارة موسكو للتباحث مع القادة الروس حول هذه الأزمة والخطوة، وقد أشارت الأنباء التي تسربت عن المباحثات بهذا الشأن إلى أن بولتون تلقى تحذيراً روسيا صارماً مفاده أن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من المعاهدة سيكون (ضربة قاصمة) لنظام الحد من التسلح النووي.

إذاً، لم يكن الموقف الأمريكي بالانسحاب من معاهدة 1987 الخاصة بالصواريخ النووية متوسطة المدى جديداً، فقد اتخذ الرئيس جورج بوش الابن موقفاً مشابهاً في العام 2002 بالانسحاب من معاهدة حظر الصواريخ البالستية التي أدت إلى سباق تسلح جديد بين الدول المصنعة لهذه الصواريخ، لذلك يدرك القادة الروس أنهم يتعاملون مع مزاج أمريكي متقلب يضع العالم بين الحين والآخر على حافة مواجهات شاملة.

ومن المؤكد أن هذا الانسحاب الأمريكي من معاهدة عام 1987 يوفر فرصة ذهبية لعودة مخاطر سباق نووي من شأنه أن يعيد حرباً باردة جديدة، ولكن بخطورة أكبر وأشمل، ما لم يجر لجم هذه المساعي الأمريكية الشريرة وغير المسؤولة التي تعرض السلم العالم للخطر.

على أي حال، فإن هذا الانسحاب الأمريكي الجديد من معاهدة 1987 ليس غريباً، ذلك أن مسلسل الانسحابات هذا بدأ منذ أن وصل ترامب إلى البيت الأبيض قبل عامين، وهو – أي هذا المسلسل- تنفيذ لوعوده التي قطعها في حملته الانتخابية لناخبيه في سياق شعاره (أمريكا أولاً)، ومن الأمثلة على هذه الانسحابات، الانسحاب من اتفاقية المناخ، ثم من منظمة اليونسكو، ومن الاتفاق النووي الإيراني الذي عقدته الدول الست الكبرى مع إيران، والانسحاب من مجلس حقوق الإنسان. وفي اجتماع لمجموعة الدول الصناعية السبع الذي انعقد في (كيبك) بكندا، دار سجال حاد بينه وبين ممثلي عواصم الدول الست حول مسائل التجارة والضرائب المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة وحول الاتفاق النووي مع إيران، تلاه انسحاب ترامب من الاجتماع بشكل مفاجئ وتراجعه عما جاء في بيانه الختامي.

كل هذا يشير إلى تصدع جدار الثقة بين الولايات المتحدة ودول العالم حتى الحليفة منها لواشنطن.

أخيراً نعود للتذكير بما قلناه في بداية الحديث، وهو أن ترامب في خطوته الأخيرة بالانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، قد يهيئ الأجواء لمواجهة نووية تهدد العالم بأسره، ويعيد أجواء الحرب الباردة وسباق التسلح إلى الواجهة.

العدد 1105 - 01/5/2024