في حضرة باب الجابية.. مخاطر التعاطي مع المكان وشخصياته!

عماد نداف:

باب الجابية، كمكان دمشقي، من أخطر الأمكنة التي يمكن أن يغامر الروائيون في الكتابة عنها، وقد ترك الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ هيبة خاصة لمسألة التعاطي مع مكان مشهور يكون فيه المكان بطلاً، فيولّد أبطالاً من الحياة، وقد فعل ذلك في خان الخليلي والسكرية وبين القصرين وقصر الشوق وزقاق المدق وغيرها من الأعمال الخالدة، فهل يمكن تبسيط المعادلة في مكان دمشقي كمنطقة (باب الجابية) التي تتحدث عنها الرواية؟!

الكاتب السوري أيمن الحسن دخل في عمق المخاطرة السردية عندما انتقى (باب الجابية) ليكتب عنه روايته الجميلة: (في حضرة باب الجابية  طفل البسطة)، وهو بذلك يحاول التأسيس لرواية معاصرة للمكان الشامي بشكل عام الذي ينبض بالحياة وصراعاتها ومآسيها، وخاصة أن الدراما التلفزيونية اجترّت الفكرة كثيراً ولم تقدمها في صورة قريبة مما تستحق إلا في الأعمال التلفزيونية الرائدة التي لجأ بعضُها إلى تحديد المكان وجعله البعضُ الآخر عاماً.

من منّا يعرف باب الجابية على حقيقته، ومن من كتابنا المعاصرين يمكن له أن يبحث عن نبض هذا المكان في حساسيته الشائكة التي تفتح المجال لأحاديث كثيرة تتعلق بالتاريخ والبيئة والصراعات الاجتماعية وخلطة السكان التي نادرا ما تؤسس لوحدة متكاملة وناجحة في النص؟!

وساحة باب الجابية التي توالدت أحداث رواية الكاتب أيمن الحسن فيها، تشبه حلقة معدنية ترتبط فيها مجموعة مفاتيح وعليك أن تتعرف في كل مفتاح على تفصيل ما يتعلق بالمكان أو بواحدة من شخصيات هذا المكان.

وفي تكثيف ساحر لوصف باب الجابية نقرأ هذه العبارة: (يتدفق نهر بشري داكن، يلهث وراء لقمة العيش)، وهي في الواقع صورتها القديمة والحالية، ويمكنك تصوّرْ المساحة التي يفردها سيل العلاقات والأحداث القادم من وراء هذا النهر البشري، والآلية التي لجأ الكاتب من خلالها لتقديها على مائدة تحفته السردية، ومع ذلك يتماسك النص، ويقود الأحداث والشخصيات بطريقة تنم عن معرفة المكان في أدق تفاصيله، إلى الدرجة التي يمكن القول فيها إن هذا المكان هو جغرافية ذاكرة الكاتب التي يحرك شخصيات البساطة والطيب والقهر في مرجل الصراع الاجتماعي من أجل الحياة، وقد باح هو نفسه بهذا التفصيل في حديث صحفي!

يفتح (طفل البسطة) على المكان من خلال عبور خالد في ذاكرته يعود إلى مرحلة الستينيات من القرن الماضي، ومن خلال هذا العبور يستحضر نماذج على غاية الأهمية يمكن وصفها بأنها واحدة من أهم الشخصيات الروائية في الرواية السورية المعاصرة، وهذه الشخصيات نمر من أمامها يومياً ولا نعرفها، وقد نصطدم بها كتفاً بكتف في هذا المكان أو غيره من الأماكن العامة الشبيهة. يؤطرها الكاتب بفن أخاذ، فتتحول إلى نوع من التطريز على يد باب الجابية وهو ينبض في جسده وروحه حتى الآن.

أي أن رواية (في حضرة باب الجابية) هي رواية القاع الاجتماعي وهو يعبر عن نفسه بمهارة السرد الروائي، ففي ذلك القاع نتعرف نماذج من شرائح اجتماعية كثيراً ما غابت عن الأدب والفن في حياتنا.

و(طفل البسطة) يعمل مع أبيه (أبو طنوس)، وأبو طنوس هذا هو بائع القهوة والشاي الذي من السهل أن يربطك بكل شخصيات المكان وتفاصيله، ويتميز بأنه عاشق لأغنيات فريد الأطرش التي تدخل الروح لكل متذوق من أي شريحة أو طبقة كان.

ومن خلال (طفل البسطة) و(أبو طنوس) و(باب الجابية) يفتح الكاتب أيمن الحسن العدسة على مجموعة من العمال العاطلين عن العمل كانوا وما زالوا يجلسون على بعض أرصفة مدينة دمشق، ومنها الرصيف المجاور لجامع السنانية في باب الجابية ينتظرون زبونا عابراً يريد عاملاً أو أكثر لاستخدمه بأمر ما، وفي تفاصيل حياة هؤلاء صور من حالات القهر الاجتماعي!

والغريب أن (حضرة باب الجابية) تكشف لنا عن انتماء أصيل لهذه الشريحة من الناس بالوطن ومعاناته، فترصدها الرواية بحس عال ينبغي التأمل فيه، وخاصة أن زخم الأحداث في الزمن الروائي هنا يعاصر هزيمة حزيران عام 1967 يوم خسر العرب الحرب والأراضي المحتلة وعمّت المأساة الأم سوادها على العرب بعدما كانت المأساة في فلسطين!

وعندما سئل الكاتب أيمن الحسن عن هؤلاء، لم يُخفِ هويته، بل قال: (انتميتُ إليهم، وهم لا ينالون إلَّا البؤس والتعب المضني، مع أنَّهم يقومون بالأعمال الصعبة: يبنون البيوت، ويؤثِّثونها للعيش الرغيد، فهم جذر الحياة في المدينة () لهذا، فأنا وفيٌّ لهؤلاء العمَّال الَّذين عايشتهم، وأتبنَّى نظرتهم المشروعة بأن يعيشوا عيشة كريمة بلا بؤس ولا قهر، ولهذا أيضاً عشت مع إخوتي النازحين حلمهم في أن يعودوا إلى أراضيهم التي اغتصبها الصهاينة خلال عدوان حزيران الغادر سنة 1967.

أعرفتم من هؤلاء؟!

العدد 1104 - 24/4/2024