الذكرى الثلاثون لانطلاقة جبهة المقاومة: «لستَ مهزوماً ما دمتَ تقاوم»

(لستَ مهزوماً ما دمتَ تقاوم)، ربما تكون هذه العبارة هي الرد الأمضى على الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت في العام 1982. وربما تكون بداية نظرية المقاومة التي تبنتها الأحزاب الوطنية اللبنانية حين أعلنت انطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في السادس عشر من أيلول عام 1982 رداً على الاحتلال وهزيمة القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية ومجزرة صبرا وشاتيلا، وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان التي تشكل في مجموعها تبعات لاحتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت، العاصمة العربية. والخطوة نحو دحر ذلك الاحتلال وهزيمته وقيام البديل الديمقراطي. فكانت هزيمة العدو الإسرائيلي التي تحققت بسواعد أبطال الجبهة الذين أجبروا جنود الاحتلال على الخروج المذل من بيروت، ثم من صيدا والبقاع فصور. فالذي قَدَّ تلك العبارة هو المفكر الماركسي مهدي عامل الذي هلل لانطلاقتها وعدّ فعلها تحقيقاً لثورية الحزب الثوري. والذين أطلقوا المقاومة هم مسؤولو الحزب الثوري الذين لم يتأخروا باتخاذ القرار، فكان إطلاقها تكريساً لوضوح الهدف والرؤية ممثلة بسرعة الرد وجرأته.

الفترة المجيدة الأكثر والأنصع في تاريخ لبنان، تلك الفترة التي تناسى فيها اللبنانيون بمختلف طوائفهم واتجاهاتهم السياسية خلافاتهم، وانتظموا مثلما ناشدهم بيان الجبهة التأسيسي الذي خطه أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي، وأمين عام منظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم، في منزل الشهيد كمال جنبلاط في المختارة. طالب البيان أبناء لبنان: (فلتنتظم صفوف الوطنيين اللبنانيين كافة، بغض النظر عن انتماءاتهم السابقة، وعن الاختلافات الإيديولوجية والطائفية والطبقية، في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كسراً للقيد الذي تحاول أن تفرضه اليوم الولايات المتحدة وإسرائيل على عنق شعبنا الحر، ورفعاً لراية التحرر الحقيقي لشعبنا العظيم). وسرعان ما انضم للجبهة فصائل أخرى كالحزب القومي السوري، والتنظيم الشعبي الناصري، وبعض الفصائل الفلسطينية. كما احتضن الأهالي في المدن والقرى المحتلة المقاومين أبطال الجبهة، وتماهوا معهم في العمل المقاوم، وهم الذين خبروهم في (الحرس الشعبي) الذي أسسه الحزب الشيوعي عام 1968 للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية التي بدأت تتصاعد ضد القرى الحدودية منذ عام 1965.

تنفيذاً للبيان التأسيسي، وبعد أربعة أيام من إعلانه، نُفِّذَت العملية الأولى للجبهة في بيروت في منطقة الصنائع ضد موقع تجمع إسرائيلي قرب صيدلية بسترس في 20 أيلول ،1982 هذا الموقع الذي كان يضم عشرات الجنود الإسرائيليين و15 آلية عسكرية وسيارات جيب ويشهد حراسة مشددة. قام المقاومون بإطلاق القنابل اليدوية على الموقع فسقط للاحتلال 8 إصابات بين قتيل وجريح، وصدر بيان للجبهة يؤكد: (إن هذه العملية هي جزء من نضال كل المقاتلين الوطنيين من أجل طرد الاحتلال وإجلائه عن تراب الوطن). وتتالت بعدها العمليات، لكنها لم تنحصر في بيروت وحدها بل قامت في كل مناطق وجود جيش الاحتلال على التراب اللبناني.

نفذت الجبهة عمليات نوعية كثيرة، وقد وصل عدد عملياتها إلى 1113 عملية ممتدة على الفترة بين عامي 1982 و 2000 حين قلت مصادر التمويل، وتم منعها من القيام بعمليات دون الحصول على موافقة المقاومة الإسلامية. وقدمت خلال تلك الفترة 184 شهيداً وشهيدة بينهم 3 استشهاديين و7 شهيدات. وأول شهيد للجبهة هو هشام عاصي سقط في 12 أيار 3891. أما أول شهيدة فهي يسار مروة سقطت في 2 آب من العام نفسه. وشارك 7000 شيوعي في العمليات العسكرية واللوجستية، ونفذوا أكثر من 5000 مهمة. أما أهم العمليات النوعية فهي عملية كفرفالوس، وعملية حولا، وعملية جبل الشيخ، وعملية (الريحان-العيشية)، وعملية تدمير إذاعة (صوت الأمل) التابعة للعميل أنطوان لحد، وقامت بها مجموعة مؤلفة من أربعة أبطال بهدف إسكات صوتها الكريه الذي يدعو إلى الخيانة، وذلك في 17 تشرين الأول 1985. وكان يعمل في الإذاعة 15 عنصراً بينهم ثلاثة خبراء أمريكيين وعدد من الإسرائيليين والحراس، وقد قضي على العناصر ودمّر المبنى. كما برزت عملية سهى بشارة المعقدة التي هدفت إلى تصفية العميل أنطوان لحد الذي أنقذ بعد خضوعه لعلاج طويل في مشفى رامبام الإسرائيلي.

كان صدى عمليات جبهة المقاومة يتردد في كل أنحاء لبنان والمشرق، رغم ضعف الإعلام الرديف لها. بل إن أخبار انتصاراتها وصلت إلى أسماع العرب جميعاً. وقد كانت الرد السريع لهزيمة لم تكن سهلة، في حرب اعتقد الكيان الصهيوني أنها ستكون نزهة. كما جاءت بعد حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت، حصار دام أكثر من شهرين. إلا أن انطلاقة الجبهة وانتصاراتها خلقت بيروت أخرى، بيروت مقاومة، يستجدي العدو الإسرائيلي أهاليها بألا يقتلوا جنوده عبر البيانات التي وزعها قبل اندحاره، ومنها البيان الذي ما زال ماثلاً في أذهان اللبنانيين وكانت تذيعه مكبرات الصوت في السيارات الإسرائيلية المتجولة على جميع الأحياء: (يا أهالي بيروت الكرام لا تطلقوا النار على جيش الدفاع الإسرائيلي، إننا منسحبون).

بعد الاصطفاف الطائفي وحصر المقاومة بحزب الله، منعت جبهة المقاومة من تنفيذ أية عملية ضد العدو الإسرائيلي أو العميل لحد. ويحاول الكثيرون تجاهل بطولات هذه الجبهة بل نسيان وإغفال الفترة التاريخية التي مر بها لبنان وكانت الجبهة هي النجمة الوحيدة المضيئة في سمائه. لا بل يحاول الكثيرون سرقة بطولاتها وحتى شهدائها ونسبها لأنفسهم، كما ظهر في مسلسل (الغالبون) الذي أنتجته قناة (المنار)، والذي ينسب بعض العمليات التي قامت بها الجبهة لحزب الله وهي عمليات قامت قبل تأسيس الحزب ذاته! بل وصلت المهزلة إلى حد احتفال تيار المستقبل وبعض القوى الطائفية في صيدا بذكرى تأسيس الجبهة، ومحاولة نسبة بطولاتها إلى طائفة محددة. يأتي ذلك في وقت لم ينسَ فيه أهالي صيدا أن هذا التيار الذي يحتفل اليوم بذكرى انطلاق الجبهة، كان أصحابه يفتحون الطرق بجرافاتهم لمرور دبابات الجيش الإسرائيلي شمالاً نحو بقية الأراضي اللبنانية.

ترافق إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مع صياغة البرنامج التحرري على جميع المستويات لإخراج البلاد من حلقة التبعية للرأسمال الأجنبي. وإطلاق مشروعها للتغيير الديمقراطي في لبنان ليحقق التنمية الحقيقية للبلاد، والعدالة الاجتماعية للشعب المستضعف. كما خلقت في تلك الفترة ثقافة عرفت بثقافة المقاومة كان لها امتداد شعبي طغى على المزاج العام في البلاد، ووجد لها صدىً بين المثقفين والفنانين والشارع بشكل عام. والجبهة التي رفعت شعار: (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وجدت لتنتصر وستنتصر) قد انتصرت باندحار العدو الإسرائيلي عن أغلب المناطق المحتلة. لكن مشروعها للبنان الديمقراطي لم ينتصر بسبب اغتياله من قوى البرجوازية اللبنانية المسلحة بدعم الطوائف لها. تلك القوى التي هي امتداد لقوى إقليمية خافت من أن يصبح لبنان مثلاً أعلى لشعوبها إن حقق انتصاره الديمقراطي المعزز بالانتصار العسكري.

تتزامن الذكرى الثلاثون لانطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مع إطلاق قوى اليسار العربي لقناة تلفزيونية تحمل اسم قناة (اليسارية) بهدف تفعيل نضال قوى اليسار العربي عبر تحشيد الجماهير وإعادة تحديد الهدف بمقاومة قوى البرجوازية العالمية التي تسببت عبر أذيالها في الدول العربية بوصول المواطن العربي إلى درجة الاستلاب الفكري والفقر الذي يعانيه حالياً. كما يأتي في حقبة مخاض ثوري عربي لا يستكمل إلا باستكمال مشروع المقاومة والتحرير عبر مشروع البديل الديمقراطي.

العدد 1104 - 24/4/2024