فيلم «براءة الإسلام».. ألم تتعظ الولايات المتحدة من سياساتها بعد؟!

طرح العرض الأولي لفيلم «براءة الإسلام» على اليوتيوب لمنتجه الأمريكي- اليهودي نقولا باسيل نقولا رسائل في اتجاهات مختلفة وتداعياتها أيضاً.. كذلك أظهر هذا الفيلم طبيعة الديمقراطية الليبرالية البرجوازية الغربية، وكيفية تعاطيها مع مشاعر المتدينين على اختلاف أديانهم وانعكاساتها السلبية من جهة وحقيقة مواقف واشنطن تجاه هذه التبعات من جهة أخرى، وخاصة في بلدان «ثورات الربيع العربي».

الفيلم الذي عرض جزء منه أولياً على صفحات اليوتيوب «14 دقيقة فقط» رأى فيه المتدينون، وبخاصة المسلمين منهم، فيلم «فتنة»، يؤجج المشاعر الدينية ويسيء إلى واحد من أهم الأديان السماوية. إن إنتاج هذا الفيلم بتمويل أمريكي- يهودي تجاوزت تكلفته الخمسة ملايين دولار، يعيد ما أثارته الانتقادات السابقة لـ«رسوم الكاريكاتير» الدانماركية وغيرها قبل عدة سنوات من احتجاجات شعبية ومواقف رسمية، ربما اضطرارية، للعديد من الدول الإسلامية والعربية آنذاك.

وإذا كنا لسنا بصدد مناقشة الفيلم «قبل عرضه كاملاً»، وهذا يحتاج إلى بحث فني- أدبي أولاً، فإن الهام برأينا يتلخص في عدد من المسائل التي طرحها العرض الأولي لدقائق من هذا الفيلم، الذي أصر منتجه، رغم الاحتجاجات الشعبية الأولية حتى تاريخه، على عرضه كاملاً.

ففي الوقت الذي أثارت فيه الرسوم الكاريكاتورية «الدانماركية» آنذاك حول الرسول الكريم محمد احتجاجات رسمية إسلامية وعربية وصلت إلى حد التهديد بقطع العلاقات مع هذا البلد الأوربي الصغير، الذي اعتذر رسمياً عن هذه الرسوم، وعدَّها تصرفاً فردياً، فإن هذه الحكومات لم تتجرأ رسمياً على انتقاد الولايات المتحدة أو التهديد باتخاذ إجراءات اقتصادية – سياسية – دبلوماسية ضدها، رغم عدم اعتراض الإدارة الأمريكية على حق المنتج نقولا بعرض فيلمه كاملاً، مما يثير العديد من علامات التساؤل حول حقيقة التعاطي مع الدول الأخرى وفقاً لوزنها وتأثيرها وحجم العلاقات الاقتصادية – العسكرية – السياسية معها، وصولاً إلى التحالف الاستراتيجي لعدد منها مع واشنطن.

ورغم تفهمنا لردود الفعل الشعبية ضد هذا الفيلم، وما يمثله من استفزاز لمشاعر المسلمين عموماً، فإن تركزها أساساً في بلدان «ثورات الربيع العربي» وقيادتها من قبل بعض الاتجاهات الإسلاموية السياسية الراديكالية، التي ساهمت واشنطن بفعالية في وصولها إلى قيادة الحركات الاحتجاجية التي شهدتها وماتزال العديد من دول منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة ليبيا، التي تدخَّلَ الناتو عسكرياً لتغيير موازين القوى فيها، وتالياً انتصار »ثورتها«، قدم نموذجاً لخرق السيادة الوطنية وكشف زيف الديمقراطية ولافتاتها.

الاحتجاجات الشعبية، على أهميتها، وليس الرسمية، ولها مدلولاتها أيضاً، أسفرت حتى تاريخه عن قتل السفير الأمريكي تريس ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين أمريكيين في بنغازي، ومهاجمة العديد من السفارات الأمريكية وإحراق بعضها في ليبيا وتونس ومصر واليمن والسودان.. ودفعت بأركان الإدارة الأمريكية إلى إطلاق تصريحات «استفزازية» وردود فعل مختلفة. إذ أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عن استغرابها وأسفها لما حدث لدبلوماسيي بلادها في ليبيا: «البلد الذي ساهمنا عملياً وبفعالية في تحرره»! كذلك إعلان وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا عن تحديد 18 دولة عربية وإسلامية ستشهد تحركاً عسكرياً أمريكياً يهدف إلى حماية البعثات الدبلوماسية الأمريكية، وبضمنها إرسال مدمرتين مجهزتين بصواريخ توماهوك إلى الشواطئ الليبية.

هذا في الوقت الذي أعلنت فيه عدة دول تشهد حراكاً شعبياً احتجاجاً على الفيلم وإساءاته، عن رفضها للعديد من العروض العسكرية الأمريكية، إذ طالب البرلمان اليمني برحيل قوات المارينز التي أرسلت لحماية السفارة الأمريكية في اليمن، كذلك رفضت السودان طلباً أمريكياً بإرسال قوات من المارينز لحماية البعثة الدبلوماسية، وهذا ما طلبته علناً أو سراً دول عربية وإسلامية عدة أيضاً، خوفاً من تداعيات هذا التدخل الأمريكي المباشر في الشؤون الداخلية لهذه الدول.

ورغم ما يمثله هذا الفيلم من استفزاز لمشاعر المتدينين وغيرهم أيضاً، ويمثل إحراجاً لدول «الربيع العربي» خصوصاً، فإن العديد من المؤشرات تشير إلى مواقف مستغربة صادرة عن دعاة الدفاع عن الإسلام ورموزه.. فقد دعا زعيم الفتنة وشيخ الناتو يوسف القرضاوي إلى عدم مهاجمة السفارات الأمريكية، لأن الدين الإسلامي دين تسامح.. ودعا إلى الاكتفاء بالتعبير «السلمي» الرمزي الحضاري لمشاعر المسلمين.. في الوقت الذي استنكر فيه خيرت الشاطر، زعيم حركة الإخوان المسلمين المصرية، مهاجمة السفارة الأمريكية في بلاده، داعياً المتظاهرين إلى ضبط النفس. وتتوالى دعوات قادة «الثورات العربية الربيعية» إلى سلمية التحرك ورمزيته، وعدم إحراج أنظمة هذا «الربيع» مع الصديقة الولايات المتحدة.

بقي أن نشير إلى مسألة تتعلق بحقيقة مواقف هامة، أي بمواقف وتوجهات الإدارات الأمريكية التي أنتجت حركة طالبان والقاعدة في أفغانستان لمحاربة السوفييت والنظام العلماني الأفغاني آنذاك، ثم اصطدمت معها وصولاً إلى تجييش «العالم« ضدها، وساهمت بفعالية في إنجاح بعض ثورات «الربيع العربي» بقياداتها الإخوانية والسلفية، ضد أنظمة صنفت حتى وقت قريب بأنها حليفة لواشنطن في المنطقة. وبدأت تحصد ردود فعل هذه الحركات الاحتجاجية ضد السياسة الأمريكية، خلافاً لمواقف العديد من قياداتها راهناً، وليس استراتيجياً. أما التلويح بالتدخل العسكري الأمريكي وإرسال قوات المارينز إلى العديد من الدول، فدونه الكثير من الحسابات الأمريكية الداخلية والعالمية أيضاً.

وإن الهام والرئيسي أن تتعظ الولايات المتحدة من سياساتها الرعناء وعدم «وفائها» لأصدقائها أمام أي تحرك شعبي، ووضعها مصالحها الآنية فوق كل اعتبار. وهذا ما يجب على الآخرين الاتعاظ به والتعاطي معه بحذر أيضاً. وأما فلسطين المحتلة والقدس الشريف، قبلة المسلمين والأديان السماوية الأخرى، فلم تشهد للأسف تحركات احتجاجية ضد تهويدها وتهجير أهلها، وهذا يضاف إلى الملاحظات حول هذه الحركات أيضاً، ويفترض أن يحرج دعاة تحرير القدس ومواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا ما لم نلحظه لا من الحركات الاحتجاجية حول الفيلم، ولا من قادة الحركات الإسلاموية السياسية على اتجاهاتها أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024