قمة آسيا ــ المحيط الهادئ.. بين الاقتصاد والسياسة ومسؤوليات الكبار

أنهت قمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا -المحيط الهادئ أعمالها في مدينة فلاديفوستوك الروسية، بعد أسبوع من اللقاءات العامة والثنائية بين مختلف الفعاليات الاقتصادية، وكذلك بين قادة الدول المشاركة في أعمال المنتدى ووزراء خارجيتها ووزراء اقتصادها. ولعل اللقاءات الأهم كانت تلك التي جرت بين الزعيمين الروسي والصيني من جانب، وبين وزيرَيْ خارجية روسيا والولايات المتحدة من جانب آخر. أما على الصعيد الاقتصادي وما أنجز خلال أسبوع كامل استمرت خلاله أعمال المنتدى، فلا يمكن الحديث عن نتائج محددة، ذلك أن المنتدى يحمل طابعاً تشاورياً يهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الدول، وفسحة يلتقي خلالها كبار رجال الأعمال من دول المنطقة يبحثون فيها سبل التعاون وإقامة مشاريع مشتركة.

في الحديث بداية عن (البطانة) السياسية لتنظيم روسيا أعمال المنتدى وترؤّس دورته حالياً واستضافته في أقصى شرق روسيا في مدينة فلاديفوستوك، فإن هذا كله إنما يشكل بالنسبة لروسيا إعلاناً جديداً حول الدور الرئيسي الذي تلعبه في مختلف العمليات الجارية في المنطقة (آسيا والمحيط الهادئ)، التي تشكل مجتمعة أقوى تكتل اقتصادي وإنتاجي. بعبارة أخرى وجدت روسيا في استضافتها للمنتدى مناسبةً جديدة لتعلن عبر المنبر الاقتصادي العالمي عن مكانتها في السياسة الدولية الحديثة. وهذا ما تدل عليه بوضوح تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أشار إلى أن استضافة روسيا لأعمال المنتدى أتت بعد حصول بلاده على عضوية منظمة التجارة العالمية، ليؤكد أن روسيا بعد تجاوز الأزمة أصبحت مستعدة استعداداً أفضل (وتفهم كيف وماذا يجب القيام به).

وللتأكيد على هذه الرسالة حول مكانة روسيا الحديثة جاء اللقاء الذي جمع بين الزعيمين الروسي والصيني على هامش أعمال القمة، وناقشا فيه العلاقات الثنائية في شتى المجالات ومستقبل التعاون الاقتصادي الثنائي والإقليمي ورؤيتهما لسبل تطوير هذا التعاون. ولما كانت الصين القوة الاقتصادية الأكبر عالمياً، والحليف الرئيسي والأهم لروسيا في آن واحد، فإن مثل هذا اللقاء بين الحلفاء يعطي أهمية إضافية لما تريده القيادة الروسية من تعزيز لموقعها في العمليات الاقتصادية الدولية الجارية حالياً والتي تشكل جزءاً من عملية إعادة ترتيب الوضع الدولي في شتى المجالات.

داخلياً توقعت الأوساط الاقتصادية الروسية من المنتدى تحقيق الهدف الأهم منه في خدمة الاقتصاد الروسي، والذي يتجسد بإعلان خطوات تؤدي إلى جذب الاستثمارات الأجنبية إلى الاقتصاد الروسي. بينما رأى البعض أن المحادثات التي جرت بين ممثلين عن قطاع الأعمال الروسي وآخرين ممثلين عن قطاع الأعمال في أكثر من دولة مشاركة في أعمال المنتدى، هي مقدمةٌ إيجابية لجذب المزيد من الاستثمارات، رأى آخرون أن المنتدى لم يحقق لروسيا هذا الهدف، على الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحدث أمام المجتمعين حول مشاريع عملاقة في روسيا، مثل بناء محطة إطلاق صواريخ فضائية جديدة، ومطارات وجسور وسكك حديدية وغيرها. إلا أنه لم يتوقف في حديثه هذا عند القضايا الرئيسية التي تهم المستثمرين، وفق ما ذكرت صحيفة (نيزافيسمايا غازيتا) الروسية، التي اشارت إلى أن بوتين لم يتناول العقبات التي يواجهها المستثمرون، مثل الهدر الحكومي والضرائب المرتفعة والفساد وغيرها. مع ذلك يجمع غالبية أصحاب الرأي أن هذا المنتدى سيفتح الأبواب أمام مرحلة جديدة من علاقات التعاون الاقتصادي بين روسيا وعدد كبير من الدول على المستويين الحكومي والخاص، وفي هذا التعاون ما يعزز مكانة روسيا إقليمياً ودولياً ويساهم في بناء نظام اقتصادي حديث فيها.

سياسياً كان لافتاً اللقاءُ الذي جمع وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف مع نظيرته الأمريكية هيلاري كلينتون، والذي بحثا فيه عدة قضايا، وفي مقدمتها الأزمة السورية وسبل إيجاد حل سياسي لها. إذ تصر روسيا على تبنّي مجلس الأمن للتفاهمات التي تم التوصل إليها في لقاء جنيف، واعتمادها إلى جانب النقاط الست لخطة كوفي عنان، مبادئ رئيسية للعمل من خلالها على حل الأزمة السورية، وترفض روسيا تبني مجلس الأمن أية قرارات تحت الفصل السابع لهذا الغرض. بينما تصر الولايات المتحدة على أن يكون أي قرار صادر عن مجلس الأمن حول الأزمة السورية قراراً ملزماً وتحت الفصل السابع.

وفي الوقت الذي لـمَّح فيه وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى توافق أمريكي-روسي حول الأزمة السورية نفت الوزيرة كلينتون وجود هذا التوافق. وأشارت إلى أن الخلافات الأمريكية-الروسية بهذا الشأن ما زالت قائمة، مؤكدة أن محادثاتها مع لافروف لم تحقق أي تقدم يُذكر. وجاء هذا في الوقت الذي بدأ فيه الإبراهيمي، المبعوث الجديد خلفاً لعنان مهامه. وتجدر الإشارة إلى أن جوهر الخلاف يعود إلى رفض روسيا استغلال القوى الدولية لمجلس الأمن كمنصة للحصول منها على قرارات تجيز التدخل بشؤون الغير، وترى أن هناك سبلاً أخرى لحل الأزمة السورية دون الحاجة إلى مثل هذا التدخل، بينما تصر الولايات المتحدة على أن يكون أي قرار بشأن الأزمة السورية ملزماً ويتيح اللجوء إلى العقوبات والقوة العسكرية إن تطلب الأمر لفرض تنفيذه.

ختاماً لا شك في أن منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا-المحيط الهادئ محطة هامة وفاعلة ومؤثرة في مسيرة الاقتصاد العالمي، واستضافة روسيا للمنتدى هذا العام سيكون لها نتائج إيجابية ستظهر مع الوقت، إلا أن هذا يتطلب خطوات على صعيد تحسين وتغيير بعض القوانين الروسية لتتمكن روسيا من الاستفادة من رئاستها للمنتدى. أما سياسياً فالمنتدى كان مجرد فرصة للبحث في الجانب السياسي، وعلى روسيا ومعها الأطراف الأخرى المعنية، أن تتابع الجهد لحل الخلافات بينها والتوصل إلى تفاهمات تؤسس لحل النزاعات الإقليمية والدولية، فهذه مسؤولية الدول الكبرى بالدرجة الأولى.

العدد 1102 - 03/4/2024