روسيا تستعد لمرحلة ما بعد انسحاب الناتو من أفغانستان

يبدو أن المعركة بين روسيا والولايات المتحدة من أجل فرض النفوذ على مناطق حساسة  وتتمتع بأهمية إستراتيجية في الفضاء السوفييتي السابق ما زالت في بداياتها. ففي الوقت الذي كثرت فيه زيارات مسؤولين أمريكيين، وتحديداً من وزارتَيْ الخارجية والدفاع، إلى عدد من جمهوريات آسيا الوسطى، تخللها محاولات إغراء بمشاريع اقتصادية عملاقة لإبعاد هذه الجمهوريات عن روسيا، أظهرت موسكو نشاطاً على محورَيْ بيلاروس وآسيا الوسطى لتُبقي على العلاقات مع دول المنطقة بما يضمن مصالح روسيا الاستراتيجية، ويراعي في آن واحد مصالح الحلفاء في شتى المجالات. 

وفي سياق تعزيز روسيا لنفوذها في محيطها الجغرافي أعلن الرئيس البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكو أن روسيا ستزود بلاده بطائرات حديثة للمناوبة الجوية وحماية أجواء الدولة الاتحادية الروسية-البيلاروسية. وجاءت هذه التصريحات عقب لقاء لوكاشينكو مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي الروسية على البحر الأسود. وأتى هذا اللقاء في وقت تستمر فيه دول الغرب بممارسة مختلف أشكال الضغط على بيلاروس التي فضلت المضي نحو التكامل مع الجارة الجغرافية والتوءم التاريخي والثقافي والحضاري، روسيا. بينما يريد الغرب من القيادة البيلاروسية أن تغير نهجها السياسي 180 درجة لتتجه غرباً وتصبح ضمن الطوق الذي يحاصر روسيا من جهة الغرب، ولأن بيلاروس لم تتبنّ مثل هذا النهج تحولت إلى عدو للغرب، دون أن تكون قد قامت بأي عمل أو سلوك يجعلها تُصنف كعدو أو خصم.

وقبل استقبال بوتين نظيره البيلاروسي في سوتشي كان الرئيس الروسي قد أجرى جولة شملت عدداً من جمهوريات آسيا الوسطى التي يبدو أن التنافس فيها بين موسكو وواشنطن سيحتدم في المرحلة المقبلة، وذلك على خلفية ابتعاد أوزبكستان عن تعاونها مع موسكو وفتح أراضيها وأجوائها واقتصادها حتى أمام التعاون مع الولايات المتحدة التي تنوي توسيع وجودها العسكري هناك، وإقامة مشاريع اقتصادية عملاقة. وكل ذلك بهدف تضييق الخناق على روسيا في مناطق نفوذها التقليدي. رداً على هذه السياسات الأمريكية وبهدف تعزيز النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، قام بوتين بزيارة إلى كازاخستان التقى خلالها نظيره نور سلطان نزاربايف، وتمخضت محادثاتهما عن توقيع 27 اتفاقية تعاون بقيمة مليارَيْ دولار أمريكي، وتشمل التعاون في مجال بناء محطات الطاقة والتعاون في إنتاج السيارات والمروحيات.

وحملت زيارة بوتين إلى كازاخستان رمزية مميزة هذه المرة، ذلك أنها أتت للمشاركة في أعمال منتدى التعاون بين الأقاليم الروسية والكازاخية. وجدير بالذكر أن إقليم بافلودار في كازاخستان يتمتع بأغلبية سكانية من المواطنين الروس أو الناطقين بالروسية، ويشهد الإقليم تعاوناً واسعاً مع الأقاليم الروسية المجاورة عبر الحدود، ومن هنا فإن الزيارة أتت لتؤكد عمق العلاقات بين البلدين على المستوى الشعبي والإنساني.

وتشكل كازاخستان محوراً رئيسياً، إلى جانب بيلاروس، من محاور السياسة الخارجية الروسية، ذلك أن كلا الدولتين تشكلان الحليف الأكبر لروسيا في الفضاء السوفييتي السابق، وكلاهما يشكل بحد ذاته قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية مؤهلة لاستمرار العلاقات التكاملية بينها وبين المؤسسات الصناعية والإنتاجية والفكرية الإبداعية الروسية، ناهيك بما يمكن وصفه بالتكامل الإنساني عبر الحفاظ على العلاقات الاجتماعية بين المواطنين في روسيا وبيلاروس وكازاخستان عند المستويات الإيجابية التي كانت سائدة في العهد السوفييتي.

قرغيزيا كانت المحطة الأخيرة في جولة الرئيس الروسي على جمهوريات آسيا الوسطى، إذ تم توقيع اتفاقيات توسع آفاق التعاون بين البلدين، وفي مقدمتها اتفاقية لتسوية مديونية قرغيزيا لروسيا التي بلغت قيمتها 500 مليون دولار، كانت روسيا قدّمتها على شكل قروض لقرغيزيا. أما الاتفاقية الأخرى فكانت حول الوجود العسكري الروسي في قرغيزيا. وأعلن بوتين أن وجود القاعدتين العسكريتين الروسيتين في قرغيزيا ستضمنان الأمن والاستقرار في آسيا الوسطى بعد انسحاب قوات الناتو من أفغانستان. أما الرئيس القرغيزي فقد وصف روسيا بالشريك الاستراتيجي، مؤكداً أن مستقبل بلاده سيكون (في المشاركة مع روسيا العظمى). بالمقابل لمح الرئيس القرغيزي إلى رفضه الحفاظ على أي وجود عسكري في مطار العاصمة بشكيك المدني، في إشارة منه إلى رفضه تمديد اتفاقية استخدام القوات الأمريكية للقاعدة في مطار (ماناس).

كل هذه التحركات والاتفاقيات تشير إلى أن روسيا تدرك أن الانسحاب المتوقع لقوات الناتو من أفغانستان قد يؤدي إلى توتر أمني في منطقة آسيا الوسطى، وأن هذا الانسحاب لا يعني تراجع الولايات المتحدة عن مساعيها في فرض نفوذها على هذه المنطقة ذات الأهمية الحيوية والاستراتيجية، لذلك ركزت جولة بوتين الأخيرة في آسيا الوسطى على تعزيز نفوذ بلاده في المنطقة استعداداً للمرحلة القادمة التي يُتوقع أن تشهد فيها منطقة آسيا الوسطى توتراً أمنياً في حال نقل القوى المسلحة المتطرفة لنشاطها إلى جمهوريات آسيا الوسطى بعد انسحاب الناتو من أفغانستان.

العدد 1104 - 24/4/2024