روسيا ورقة في الانتخابات الأوكرانية والجورجية

 أصبحت العلاقة مع روسيا ومستقبلها ورقة حاضرة بصورة دائمة في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية في غالبية الجمهوريات السوفييتية السابقة. ففي الانتخابات البرلمانية التي شهدتها كل من جورجيا وأوكرانيا الشهر الماضي كانت العلاقة مع روسيا حاضرة بدرجات متفاوتة في الحملات الانتخابية لمختلف القوى السياسية الساعية إلى شغل مقاعد الأغلبية كل في برلمان بلده. وإذا كانت العلاقة مع روسيا قد شهدت بعض الانضباط والهدوء في ظل رئاسة فلاديمير يانكوفيتش، زعيم حزب الأقاليم، المقرب من روسيا، فإن العلاقة الجورجية مع روسيا لم تكن على هذه الحال في ظل رئاسة ميخائيل ساكآشفيلي الذي بدا منذ توليه السلطة وكأنه جاء لا ليخدم جورجيا ويبنيها، بل ليعكر صفو العلاقات مع جارته الكبرى وينفذ كل ما يطلبه الغرب منه تجاهها من مخططات.

جدير بالذكر أن السياسة الخارجية الجورجية دخلت مرحلة جديدة، يبدو أنها تتجه فيها نحو نقلة نوعية في العلاقات مع روسيا، مقارنة بما كانت عليه هذه العلاقات طيلة السنوات العشر الماضيات، التي بلغ الأمر فيها حد المواجهة العسكرية المباشرة بين القوات الجورجية والروسية حين قرر الرئيس ساكآشفيلي حل النزاع حول أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بهجوم عسكري شنه على هاتين الجمهوريتين. منذ ذلك الحين انقطعت العلاقات بين البلدين، وهو ما أدى إلى تدهور غير مسبوق في الاقتصاد الجورجي الذي كان يعتمد اعتماداً كبيراً على التعاون التجاري مع روسيا، على مستوى الشركات والقطاع الخاص أكبر منه على المستوى الرسمي. ولما كانت الانتخابات فرصة لظهور قوى جديدة تسعى إلى تغيير واقع قائم، فقد جاء فوز حزب (الحلم الجورجي) بزعامة إيفانشفيلي ليشكل منعطفاً في السياسة الخارجية الجورجية ككل، وفي العلاقات مع روسيا على وجه الخصوص.

بعد توليه منصب رئيس الحكومة الجورجية، المدعومة بأغلبية برلمانية حصدها حزب (الحلم الجورجي) في الانتخابات البرلمانية، اتخذ إيفانشفيلي قراراً بتعيين دبلوماسي جورجي محنك كمبعوث خاص مسؤول عن ملف تطبيع العلاقات مع روسيا. وأكد إيفانشفيلي أنه (من الضروري أن تقيم حكومتنا علاقات مع جارنا الكبير روسيا. ولقد عشنا معاً في الاتحاد السوفييتي خلال فترة طويلة، واستمرت علاقاتنا بعد ذلك، وعلينا تطبيع هذه العلاقات).

يبدو واضحاً أن إيفانشفيلي في جورجيا يمهد لمرحلة جديدة من العلاقات مع الجارة روسيا، لن يتنازل فيها عن ما تراه جورجيا قضية قومية ووطنية تتجسد بالسعي لاستعادة وحدة الأراضي الجورجية، أي استعادة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، إلا أنه حدد أن العمل بهذا الاتجاه سيكون عبر الحوار لا عبر فوهات البنادق. وهذا بحد ذاته مؤشر إيجابي وهام يدل على أن القيادة الجورجية الحالية تسعى إلى تحسين العلاقات مع روسيا وستعمل على حل الخلافات بطريقة حضارية. والحق يُقال إن مثل هذه السياسة لا تخدم المصالح العليا لجورجيا وحدها، بل وتصب في خدمة أهداف السياسة الخارجية الروسية، لاسيما فيما يتعلق بالحفاظ على النفوذ الروسي في الفضاء الجغرافي المجاور للأراضي الروسية، من هنا تعاملت روسيا بمستويات عالية من الإيجابية والتشجيع لهذا النهج الذي برز في جورجيا، وهي على أبواب نهاية حقبة ساكآشفيلي المنصبِّ أمريكياً رئيساً لجورجيا.

في أوكرانيا يمكن القول إن مرحلة تبعية السياسة الخارجية الأوكرانية للسياسة الأمريكية انتهت منذ فوز يانكوفيتش بالرئاسة، إلا أن العلاقات الأوكرانية-الروسية بقيت مصدر خلاف داخلي بين مختلف القوى والتيارات السياسية الأوكرانية التي ينادي بعضها بالتوجه نحو الناتو وإغلاق القاعدة البحرية الروسية الأكبر على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم الأوكرانية، مع رفض لمنح اللغة الروسية أي صفة رسمية، وما إلى ذلك من خطوات تحد من تأثير العنصر القومي الروسي الموجود بنسبة النصف تقريباً في أوكرانيا على السياستين الداخلية الخارجية للبلاد.

إلا أن بقاء حزب الأقاليم بزعامة يانكوفيتش قوة رئيسية في البرلمان، وممسكة بموقع الرئاسة في آن واحد، حال دون تحقيق ما يدعو إليه الرافضون لعلاقات طيبة مع روسيا، والساعون إلى التوجه بأوكرانيا غرباً نحو الولايات المتحدة والناتو. لكن يبدو أن أوكرانيا مقبلة على مرحلة لا يبدو أنها ستتميز بالهدوء السياسي، لأن حزب الأقاليم حصل على 30% من أصوات الناخبين فقط، بينما حصل حزب (باتكيفشينا) المعارض الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الأوكرانية السابقة يوليا تيموشينكو على 53,25% من أصوات الناخبين (وفق النتائج الأولية)، ما يعني أن المعركة بين القوى السياسية ستكون حامية داخل أروقة البرلمان الأوكراني، وسيحسم التوافق والتحالف بين مختلف القوى داخل البرلمان الأمر بالنسبة للقرارات الاستراتيجية التي تُرسم بموجبها معالم سياسات الدولة في شتى المجالات. إذ يُتوقع أن يتحالف الحزب الشيوعي الأوكراني الذي حصل على 18,13% من أصوات الناخبين مع حزب الأقاليم في مواجهة حزب تيموشينكو وأحزاب معارضة أخرى حصلت على نسب ضئيلة من أصوات الناخبين.

ختاماً يمكن القول أن السياسات الخارجية في كل من جورجيا وأوكرانيا تمر حالياً فيما يمكن وصفه بمرحلة المخاض العسير باتجاه استعادة العلاقات الطبيعية مع روسيا، وفي هذه المرحلة لن يكون الأمر رهن رغبات القوى السياسية الأوكرانية أو الجورجية فحسب، بل وسيكون لكيفية تعاطي روسيا مع هذه  المرحلة الأثر الكبير على مساعي القوى التي صعدت إلى السلطة في كلا الجمهوريتين، إذ تشكل العلاقات الطيبة معهما أهمية استراتيجية بالنسبة لروسيا ومستقبلها كقوة إقليمية ودولية.

العدد 1102 - 03/4/2024