بوتين نحو أوربا عبر شبكات الغاز لتغيير السياسة

عبر شرايين تكاد تصبح الحياة في أوربا دون جريان الغاز فيها معقدة جداً، ينفذ بوتين من جديد إلى قمة روسيا -الاتحاد الأوربي، ونصب عيني الرجل المضي قدماً في الخطوات التي من شأنها جذب أوربا نحو علاقة أفضل مع روسيا، بعيداً عن التبعية الأوربية للسياسة الأمريكية. لاسيما في ذلك الشق الذي تلعب فيه الجغرافيا الأوربية دور القاعدة المتقدمة (رأس الحربة الأمريكية على الحدود مع روسيا) في التنافس الاستراتيجي الأمريكي-الروسي المستمر والذي يشكل نصب الدرع الصاروخية على الأراضي الأوربية أحد أهم تجلياته. لم يتحدث بوتين كثيراً في هذا الشأن خلال القمة الحالية لروسيا والاتحاد الأوربي، بل ركز بصورة أساسية على الملفات الاقتصادية، دون أن يهمل موضوع إلغاء التأشيرات بين الجانبين.

منذ السنوات الأولى لتوليه الرئاسة كان بوتين يدير سياسته الخارجية، وتحديداً نحو أوربا، بصورة تدفع الأوربيين إلى إعادة التفكير في سياساتهم الخارجية وترتيب سلم الأوَّليات فيها بما يتناسب مع المتغيرات في العالم. على رأس هذه المتغيرات التي برزت في السنوات الأخيرة في العلاقة بين روسيا والدول الأوربية، حقيقة جيو-اقتصادية، تؤكد واقعية (إمكانية) بناء علاقات مع روسيا بديلة عن علاقات القارة العجوز مع الولايات المتحدة، وتكون قائمة على التعاون الاقتصادي. فأوربا بأمس الحاجة إلى الخامات الروسية والاستثمارات التي يمكن لقطاع الأعمال الروسي الخاص والحكومي أن يقدمها لها، بينما تحتاج روسيا إلى الأسواق الأوربية لتصريف خاماتها الأولية، ولتستفيد من التجربة الصناعية والتقنية الأوربية، سعياً منها لبناء اقتصاد انتاجي لا يرتكز على الدولار النفطي أو الغازي.

الفكرة الرئيسية أن بوتين ينطلق في إدارة علاقات بلاده مع أوربا من العاملين الجغرافي والبشري. إذ أن أجزاءً من روسيا تقع في القارة الأوربية، وعبر التاريخ هناك هجرات بشرية متبادلة بين روسيا ومختلف الدول الأوربية، وتبادل ثقافي يجعل الثقافات الأوربية والروسية ثقافات متقاربة جداً، وعلاقات سياسية واقتصادية متحولة حسب مراحل التاريخ. فمن الحروب التي شهدتها أوربا وكانت روسيا شريكة فيها انتقلت العلاقة إلى جزء أوربي موال لروسيا السوفييتية، وتابع لها. وآخر تابع للولايات المتحدة إبان الحرب الباردة، في ظل هيمنة حلفَيْ شمال الأطلسي وحلف وارسو على العالم. بعد انتهاء تلك الحقبة من تاريخ البشرية وسقوط جدار برلين استعادت أوربا وحدتها لكن تحت المظلة الأمريكية للأسف، وهو ما عدَّته الولايات المتحدة نتيجةً طبيعية للنصر على الاتحاد السوفييتي، بينما رأت فيه موسكو تمسكاً بعقلية الحرب الباردة.

على الرغم من الدور الذي تلعبه أوربا عبر تحالفها مع الولايات المتحدة ضمن الناتو، آخر مخلفات الحرب الباردة، لم تضع  روسيا هذا الملف عقبة أمام تطوير علاقاتها مع أوربا، وعمدت إلى الفصل بين السياسة والاقتصاد. وفي وقت لا يمكن العثور على الكثير من الملفات السياسية التي تتفق بشأنها وجهتي النظر الروسية والأوربية، تغلغلت شبكات الطاقة الروسية في الجسد الأوربي مؤكدة الترابط المصيري بين أبناء القارة الأوربية، وضرورة البحث عن نقاط مشتركة تخدم مصلحة الجغرافيا التي يعيش عليها الروس إلى جانب الجيران الأوربيين، الذين ترى روسيا أن أمنهم الاستراتيجي مرتبط مصيرياً أيضاً بأمن روسيا.

واقع الحال اليوم أن الملفات التي تعكر صفو أجواء العلاقات الروسية-الأوربية كلها ملفات على صلة بربط أوربا لأمنها بالولايات المتحدة، والنظر إليها كقوة كبرى تحمي القارة الأوربية من (الخطر الروسي). وفي هذا ما يدل على أن أوربا ما زالت أسيرة عقلية الحرب الباردة، بينما تسعى روسيا إلى إقامة علاقات شراكة مع الاتحاد الأوربي ومع الولايات المتحدة. لكن دعوتها للشراكة إما تُرفض، أو يتم تجاهلها بخطوات يرى الروس فيها استمراراً لخطط فرض طوق أمريكي حول روسيا يهدف إلى تحجيمها في شتى المجالات.

رداً على هذا الواقع تلمِّح روسيا للأوربيين أنهم ليسوا بحاجة إلى الحفاظ على موقع قد يجعلهم ذات يوم يدفعون ثمن مصالح دولة تبعد آلاف الكيلومترات عن القارة الأوربية. ولإظهار أهمية إعادة التفكير في أوَّليات السياسة الخارجية الأوربية، ونحو روسيا على وجه الخصوص، تستخدم روسيا أوراقها الاقتصادية التي لا تقتصر على ارتهان مصير أوربا الطاقي بصادرات الغاز الروسية، بل وتشمل مجالات عدة للتعاون بين الجانبين. منها على سبيل المثال لا الحصر أن روسيا وألمانيا شغلتا المكانة الأولى في الاستثمارات العقارية في أوربا خلال النصف الأول من العام الجاري. وهناك الاستثمارات الأوربية في أسواق الأوراق المالية الروسية وفي العقارات وفي صناعة التقنيات، وغيرها.

باختصار يسعى بوتين إلى بناء علاقات مع أوربا تأخذ بالحسبان مصالح الجانبين، وكل يهتم بهواجس الآخر، انطلاقاً من فكرة العيش جنباً إلى جنب ضمن جغرافيا واحدة متصلة وثقافة متكاملة عبر التاريخ. وبين الأسطر تحاول روسيا التأكيد أن أمن روسيا من أمن أوربا والعكس صحيح. ومن هنا تدعو روسيا الدول الأوربية إلى التخلي عن سياسات ما زالت تشكل قيوداً تحد من مجالات التعاون بين موسكو وبروكسل. ولأن تسهيل التنقل بين أوربا وروسيا والسماح بحرية الحركة للمواطنين الروس باتجاه أوربا وما سيتركه هذا من تأثير إيجابي لإعادة صياغة العلاقات الأوربية -الروسية والمضي بها نحو نوع من التكامل يفرضه الواقع، ركز بوتين في قمة روسيا-الاتحاد الأوربي على ملف إلغاء التأشيرات بين روسيا والاتحاد الأوربي، ويبدو أن تسوية المسائل الفنية ذات الصلة مؤشر أولي على أن أوربا ماضية عاجلاً أم آجلاً نحو بناء علاقات مع روسيا مختلفة نوعياً، ويكون لها أثرها المباشر على المشهد الدولي الحالي.

العدد 1105 - 01/5/2024