مفاوضات مقابل تسهيلات!

خلافاً لموقف القيادة الفلسطينية الذي اعتمدته في آخر لقاءاتها، منح الرئيس محمود عباس الضوء الأخضر لوزير الخارجية الأمريكي، ليعلن عن استئناف المفاوضات خلال أسبوع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في واشنطن، بين (الكبيرين) عريقات وليفني. وجاء الإعلان الأمريكي بعد زيارة خاطفة مفاجئة قام بها المكوك كيري لمقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله، ولم يُكشف رسمياً عن (الصفقة) التي أدت لموافقة عباس، دون اتفاق مع القيادة الرسمية، رغم محاولات الحديث عن وجود بعض (التفاصيل) العالقة، ولكن لم يكن عبثاً أن يعلن كيري عن اتفاق لإطار الاستئناف لو أن تلك (التفاصيل) ستكون (عقبة).

موافقة الرئيس عباس على الموقف الأمريكي دون الاتفاق مع القوى الفلسطينية يكشف أن (الصفقة) لا تتفق والأسس الوطنية التي سجلتها القيادة خلال المناقشات الأخيرة، بل إنها لا تتوافق أصلاً مع موقف قيادة حركة فتح الأساسي، الذي أعلنه أكثر من مسؤول باسمها، ولغياب (الشفافية) السياسية لدى الرئاسة الفلسطينية ومن معها، في إعلان حقيقة الصفقة ومضمونها، تبقى كل الاحتمالات، بأنها صفقة ضارة، هي التي تسود إلى حين ما يثبت عكس ذلك، أي أن المتهم ليس بريئاً، حتى تثبت براءته.

ما بدأ يتسرب من عناوين الصفقة التي أجبرت عباس وفريقه على الانصياع للمشيئة الأمريكية، يتضح أنها مكونة من (رزمة تسهيلات) لتحسين نمط الحياة اليومية، وفتح الباب أمام أهل الضفة الغربية للذهاب إلى السوق الإسرائيلي للتسوق، والدعاية للهبات الاقتصادية التي ستأتي نتيجة تلك الصفقة، مع بعض الرتوش السياسية التي لا تحمل أي شكل التزامي أو إلزامي، بل لا تحمل وعداً مكتوباً، هي مجرد كلام في كلام، وكأن الولايات المتحدة احترمت يوماً ما وقعت عليه كي تحترم ما تتكلم به، ولذا، فما هو ملموس فعلياً سيكون (رزمة تسهيلات حياتية) دون (تسهيلات سياسية).

العودة إلى طاولة المفاوضات ضمن شروط الولايات المتحدة – تل أبيب تشكل انتكاسة سياسية، بل قد يراها البعض طعنة لروح الوطنية الفلسطينية، وتنازلاً لا مبرر له في زمن بدأت فيه روح (الوطنية) تشرق من بابها المصري ضد (الهمينة) الأمريكية. إنه تنازل لا مبرر له وطنيا، ولن ينفع معه لاحقاً كل أشكال التبرير الساذج الذي يعده (فريق الذل السياسي) المنصاع للقرار الأمريكي، ولو كان لدى ذاك الفريق ما يمكن أن يعلنوه لشعبهم، لما أصروا على منح كيري موافقهم، دون الرجوع للإطار القيادي الرسمي، أو لإبقاء الإطار الذي تحدث عنه كيري في إطار السرية، وكي لا يقال إن (السرية) لخدمة المفاوضات كما سبق أن حدث في مفاوضات سابقة، فتلك ليست سوى استخفاف نادر بالعقل الجمعي الفلسطيني، لأن شروط التفاوض التي تم تحديدها كانت موقفاً وطنياً معلناً، هي ليست نصاً تفاوضياً بل هي أسس لها، ولا يوجد (أسس سرية) في علم التفاوض.

يبدو أن الإدارة الأمريكية نجحت في تحقيق (إنجاز) خاص في ظل فشلها العام في المنطقة، خاصة بعد سقوط حكم الإخوان في مصر وارتباك المشهد عليها وتحالفها التركي الإسلاموي، لترتيب المنطقة وفقاً لمخطط زرع الفتنة والتقسيم، من أجل فرض هيمنة مستديمة تضمن لها مصالحها في صراعها الكوني، في ظل بداية كسر سيطرتها الأحادية التي دامت لسنوات على العالم، الإصرار الأمريكي على إجبار الرئاسة الفلسطينية أن توافق للعودة التفاوضية بلا أي شرط أو ضمانة مكتوبة يكشف القيمة السياسية للورقة الفلسطينية في ظل المشهد الراهن.

لو أصرت الرئاسة الفلسطينية على التزامها بالموقف الرسمي للقيادة، بعدم الاستجابة للموقف الأمريكي دون احترام أسس الموقف الفلسطيني، لعاد كيري يحمل عاراً وخيبة وانكساراً، لكن حدث ما لم يكن بالحسبان الفلسطيني وحصل مندوب واشنطن على مبتغاه، دون أن تتراجع دولة الاحتلال عن موقفها التفاوضي، بل ودون أن تتعهد بوقف استيطانها أو تهويدها في الضفة والقدس المحتلة، واكتفت بدل ذلك برزمة تسهيلات حياتية يبقى تنفيذها بيد أي مجند على حاجز لجيش المحتل. هل ستمر الصفقة الحديثة في ظل (جعجعة) رفض كلامية أم تتجه القوى الوطنية جميعها للتعبير الحقيقي عن رفضها لصفقة  ستلحق، إذا مرّت بصمت، ضرراً تاريخياً بالقضية الوطنية، والرد بفعل شعبي يكسر شوكة أطرافها؟!

قديماً تحدثت واشنطن عن معادلة ساذجة اسمها (الأرض مقابل السلام)، وجعلت العرب يعتقدون أنها معادلة لهم، واليوم تستبدل بتلك المعادلة الساذجة معادلة أكثر سذاجة اسمها (مفاوضات مقابل تسهيلات)..يا حلاوة..مع الاعتذار للممثل المصري مظهر أبو النجا!

ملاحظة: من يقرأ تصريحات ليفني وفرحها بصفقة كيري سيكتشف مدى عار الصفقة الذي لحق بصورة شعب فلسطين وقضيته!

العدد 1104 - 24/4/2024