الاختراق الصهيوني للقرن الإفريقي… السودان نموذجاً

شغلت إفريقيا بالَ منظّري المشروع الصهيوني منذ فترة طويلة، لا بل إنها اكتسبت أهمية كبـيرة جـداً في المشـروع الصهيـوني منذ بداياته الأولى. وهو ما يؤكـده بيار بيان في كتابه (Carnages) (مذابح) عندما يقول: (حين كنت أقوم بتحقيقي حول المذابح، اكتشفت أن إفريقيا مهمة جداً لإسرائيل، لا بل أقول إنها كانت مسألة حياة أو موت. وإسرائيل تعدّ السودان إحدى الدول الأكثر خطورة، بسبب مساحته وخيراته الباطنية. ويكفي أن ننظر إلى الخريطة لنرى الشواطئ مع البحر الأحمر. وبالتالي فإن إسرائيل فكرت دائماً بضرورة أن تكون الخرطوم مشغولة دائماً بحدودها، أولاً بجنوب السودان بتشجيع الحركات الانفصالية في الجنوب. وقامت إسرائيل بعقد تحالف دائري مع دول الجوار السوداني، وخصوصاً إثيوبيا وأريتريا وأوغندا. وأصبحت أوغندا مهمة جداً ومركزية في الخريطة الاستراتيجية لإسرائيل، وكان الهدف تطويق السودان والبدء بتقطيع أوصاله).

ويضيف الكاتب: (منذ عام 1956 بدأت إسرائيل بتشجيع حركة (الأنيانيا) حتى العام 1972. وبعد ظهور الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، دعمت إسرائيل قرنق منذ البداية بالسلاح والمستشارين. ثم منذ العام 2003 لقيت حركة جنوب السودان التي تدعمها إسرائيل تشجيعاً ساهم في امتداد التمرد إلى غرب السودان، أي دارفور، أي أن إسرائيل شجعت في البداية انفصال جنوب السودان، وستشجع التمرد في دارفور).

ويضيف بيان: (حاولت أن أبرهن في كتابي أنه لكي نحلل ما يجري في السودان، خصوصاً استفتاء كانون الثاني،2011 يجب أن نفهم لعبة الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل لفهم تشجيع التمرد). ويرى أنه (بالنسبة للولايات المتحدة التي تفكر على مستوى عالمي، فإن السودان هو البلد الأكبر مساحة في كل إفريقيا والعالم العربي، بحيث تصل هذه المساحة إلى مليون ميل مربع، ثم إن النقطة المهمة الثانية تتعلق بحدود السودان مع الكثير من الدول الإفريقية والعربية،وهي حدود مهمة إفريقياً وعربياً، وهو بالتالي دولة مفترق طرق. أما النقطة الثالثة فتكمن في أهمية المصادر والاحتياطي النفطي المهم. هذه هي النقاط المهمة بالنسبة للأمريكيين الذين يحاولون فرض سياستهم على السودان، كما أن العيون الأمريكية كانت مسلطة على الخرطوم في التسعينيات انطلاقاً من خشيتهم من أن يصبح هذا البلد ملجأ إسلامياً على المستوى الدولي. ولنتذكر أنه في تلك المرحلة استقبل السودان  (زعيم تنظيم القاعدة) السابق الراحل أسامة بن لادن بعد نزع الجنسية السعودية عنه. وكان بن لادن متهماً آنذاك بتدبير وتنفيذ عمليات ضد الولايات المتحدة).

ويشرح بيان (بعد التجربة المأسوية الأمريكية في الصومال، قررت الولايات المتحدة التوقف عن التدخل المباشر، لكن الخرطوم كانت تعدّ من وجهة نظر إسرائيل والولايات المتحدة، بعد وصول الرئيس عمر البشير إلى السلطة ومعه الدكتور حسن الترابي، خطيرة جداً. وكان لا بد إذاً من تشجيع قادة الدول المجاورة للسودان أي أريتريا وإثيوبيا وأوغندا ثم رواندا وزائير لإقامة ذاك التحالف المقدس، والذي سيكون أحد أهدافه قلب النظام في الخرطوم). ويشرح المؤلف في كتابه هذا أسباب فشل هذا التحالف وعدم نجاحه. فقد وقعت حرب بين إثيوبيا وأريتريا، ولوران ديزيريه كابيلا الذي كان ألعوبة بين أيدي أوغندا ورواندا، انفصل عنهما، وبالتالي فإن التحالف المقدس تفكك. لكن أوغندا كانت قد أصبحت دولة مركزية بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، لأنه إذا نظرنا إلى الخريطة، فسنجد أن لجنوب السودان حدوداً مشتركة مع أوغندا وانطلاقاً من هذه الدولة، وكذلك من أريتريا وإثيوبيا فإن عمليات سرية نفذت في جنوب السودان، وبدأت كل تحركات زعزعة استقرار الجنوب بغية فصله.

ومنذ عام 1983 أي حين بدأ الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني التمرد، فهمت إسرائيل ثم بريطانيا فالولايات المتحدة أنه أصبح شخصاً مهماً، ويمكن أن يستلم السلطة، فشجعته، وبات منذ ذلك الوقت رجل المنطقة والحليف الأفضل للدول الثلاث، أي إسرائيل وبريطانيا والولايات المتحدة، و(كان أحد أهم الأهداف مراقبة الخرطوم وتشجيع حركات التمرد في الجنوب السوداني). وينقل الكاتب بيان عن صامويل هانتنغتون في مؤلفه الشهير (صدام الحضارات) وكذلك عن وثيقة لـ (هيلموت ستريزيك) وعن كتاب (أليكس وال) الذي يحمل عنوان (الإسلاموية وأعداؤها)، أنه بعد وصول بيل كلينتون إلى الرئاسة الأمريكية، تشكلت جبهة معادية للإسلاموية، وأبدت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة مادلين أولبرايت اهتماماً خاصاً بدور السودان في الصراع الشرق أوسطي، وتساءلت عن أهمية قلب نظام الرئيس عمر البشير والدكتور حسن الترابي، لمصلحة حكومة يقودها زعيم التمرد الجنوبي جون قرنق.

وكشفت تقارير صدرت في أيار 2010 أن عدة مصادر أجنبية من بينها إسرائيل تعمل على تدفق السلاح إلى الجنوب، مشيرة إلى أن تنسيقاً أمريكياً وإسرائيلياً يجري بخصوص ذلك، عبر تمويل عمليات التسليح التي تتولاها وزارة الدفاع الإسرائيلية، وكشف التقرير عن برنامج سري على صعيد التسليح بقيمة 130 مليون دولار، مشيراً إلى أن من بين المؤسسات التي تدعم تدفق السلاح إلى الجنوب مؤسستي كودو وكلوبال – T.SC وأكد أن من بين الشركات التي تمول تدفق السلاح إلى الجنوب شركة كودو الإسرائيلية، وهي شركة مسجلة في سويسرا ويمتلكها كل من مزدوج الجنسية – الأمريكي الإسرائيلي – شلوي مايكليس ورئيس الموساد الأسبق داني ياتوم.

وذكر التقرير أن ياتوم كشف في زيارة قام بها في أيار 2010 إلى دولة مجاورة أنه بإيعاز من الولايات المتحدة وإسرائيل تم نقل صفقة أسلحة إلى جنوب السودان تشمل دبابات وآليات مدرعة ووسائل دفاع جوي ووسائل مضادة للدروع وراجمات صواريخ ومعدات أخرى. وكشف داني ياتوم أن مؤسسة كودو ستطبق تجربتها التي خاضتها مع الأكراد في شمال العراق هذه المرة في جنوب السودان، وفسرها: أي بناء جيش جنوبي عنصري متفوق على الجيش السوداني في الشمال بحيث يصبح قادراً على مواجهة المعركة. وكشف أن الصفقة تقدر بنحو 300 مليون دولار تدفع مناصفة بين وزارة الدفاع الأمريكية والإسرائيلية. كاشفاً في الوقت نفسه عن وجود مستودعات أسلحة لهذه المؤسسة في دول بالمنطقة.

العدد 1104 - 24/4/2024