الهجرة القسرية

قالت رئيسة وزراء العدو الصهيوني الراحلة في الماضي: (إن الكبار من الفلسطينيين سيموتون وإن صغارهم سوف ينسون)، وعملت دولة الاحتلال ومعها الحلفاء على إبعاد العرب الفلسطينيين عن محيط دائرة الصراع العربي الصهيوني، بأساليب شتى، كان آخرها ترحيل فلسطينيي العراق خارج نطاق الصراع جغرافياً، إلى المنافي البعيدة، حتى إن أرض عروبتهم لم تتسع لهم ذلك في ظل الاحتلال الغربي الصهيو-أمريكي للعراق.. واليوم تكرر العدوانية الصهيو- أمريكية فعلتها باستخدام أتباعها الجدد من القوى المسلحة والعصابات التكفيرية ومن وراءهم من العرب المتصهينة.. هذا العمل القذر المرتكب بحق شعبنا في المخيمات الفلسطينية لإسقاط حقهم في العودة، ومنعهم من ممارسة النضال اليومي والمقاومة، بتشريدهم وطردهم باتجاه المنافي البعيدة، وتقديم مغريات مفبركة وهادفة إلى التزام تلك الحكومات دفع حصتها المتوجبة عليها في حرب الولايات المتحدة والرجعية على سورية المقاومة والممانعة، تحت ذرائع شتى من اللجوء الإنساني أو الإغاثي وحقوق الإنسان التي انتهكت في كل من فلسطين ولبنان ومصر والعراق وليبيا، على أيدي مجرمي الحرب الغربيين وصنيعتهم الدولة الصهيونية.

كان مخيم اليرموك بدمشق مركزاً للفكر والثقافة وإحياء التراث والذاكرة الفلسطينية من خلال المحاضرات الأسبوعية والدورية ونشاط الشبيبة الفلسطينية، وكان هذا العمل يرفد مصنع الأبطال الفلسطينيين المقاومين وعبر الحدود وخطوط التماس مع العدو المحتل، وكان المثقفون الفلسطينيون، والسوريون هناك يشكلون شوكة في حلوق أدعياء المفاوضات العبثية والتنازلات المجانية للعدو.. وكان أن توعد الإرهابي شارون بإنزال العقوبة على مخيم اليرموك.. واليوم وجدت الصهيونية ضالتها المنشودة للقيام بهذا العمل الخياني الإجرامي لتشريد جماهير المخيم وغيره من المخيمات في سورية، ودفعهم إلى الشتات والمنافي، بهدف وقف هذه المقاومة وهذا الإصرار على حق العودة الذي لا يسقط بالتقادم.

والدتي التي تبلغ من العمر تسعين عاماً، لدى محاولتي إخراجها من المخيم، لأنني أقيم خارجه، رفضت الخروج قائلة لي وهي العجوز الأميّة: لقد خدعنا الحكام العرب عام 1948 وطلبوا منا الخروج لتطهير فلسطين من الغرباء من اليهود الأجانب الغزاة، وقالوا لنا سنعود بعد أسبوع، وها نحن تجاوزنا الخمسة والستين عاماً من اللجوء القسري.. لن أخرج من المخيم إلا في إحدى حالتين: إما إلى مدينة صفد، حيث موطني الأصلي، وإما إلى قبري في هذا المخيم..  لقد أنجبت رجالاً يحملون عبء العودة إلى فلسطين، وفعلاً، بعد شهرين توفيت والدتي بعد نقلها إلى المستشفى بدمشق، ومنه إلى مرقدها على أرض عربية سورية، تُعتبر فلسطين جزءاً لا يتجزأ منها.

خلال حواري مع عدد من المشردين من المخيمات، كانت غالبية الآراء تجمع على أن الهجرة والمنافي هي جزء من حلقات التآمر على فلسطين، وحق العودة وقوى الممانعة والمقاومة، وأنها تكريس لسياسة التفاوض والتنازل عن حق العودة وضمان أمن دولة صهيون في تحقيق الاستقرار لها والاعتراف بها دولة يهودية في المنطقة، برعاية خليجية معلنة، عبر شن الحرب وتمويلها ضد سورية والعراق ولبنان، وتدعو الغالبية للتمسك بالهوية الفلسطينية والأرض وحق العودة. وما اقتحام المخيمات إلا جزء من هذا المخطط برعاية أمريكية ورسمية عربية، ومع تقدير ظروف البعض الذين فقدوا كل شيء، إلا أن البعض الآخر والأغلبية منهم لا نجد لهم العذر ولا المبرر لهذا الضياع واللجوء إلى المنافي أمام مغريات كثيرة، لن يلبثوا أن يكتشفوا أبعادها ومراميها وعقم هذه الممارسات المغلفة بالإنسانية وحقوق الإنسان المنتهكة في منطقتنا العربية بواسطة تلك القوى الاستعمارية التي تدعي أنها تتبنى اليوم هذا اللجوء الإنساني ذا المرامي السياسية الهادفة إلى خدمة الصهيونية أولاً وأخيراً.

وتلعب كل من تركيا والأردن والسلطة اللبنانية دوراً سلبياً في هذا المجال، تحت زعم عدم توفر الإمكانات لاستقبال اللاجئين السوريين والفلسطينيين، رغم أنه يتوجب على تلك الدول المتبنية للجوء الإنساني، أن تقوم بدفع مبالغ مالية ومساعدات لتلك الدول  المضيفة للاجئين، بدلاً من الضغط عليهم معيشياً وإنسانياً وحرمانهم، بهدف تسهيل وتوجيه هجرتهم، لتكون أقرب إلى القسرية.. وعلى تلك الدول المضيفة أن تتذكر التضحيات العربية السورية في استقبال اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين وحسن معاملتهم ودعمهم، وقد كان هذا الاستقبال والاحتضان رسمياً وشعبياً دفع باتجاه تعزيز صمود أهلنا العرب من الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين، ودعم مقاومتهم في مواجهة المعتدين والمحتلين لبلدانهم، وتحمل عبء هذا النضال والدعم الذي تدفع القيادة السورية ثمناً كبيراً له، وهي تقف شامخة مواجهة لقوى الشر والجريمة والإرهاب الدولي المدعوم أمريكياً وصهيونياً ورجعياً عربياً وعثمانياً غربياً.. إن وقف هذه الهجرة القسرية هو واجب على كل القوى المقاومة والممانعة، لإبقاء الشباب العربي ضمن دائرة الصراع العربي الصهيوني، بدلاً من تسهيل هجرتهم أو إكراههم بوسائل شتى على الهجرة والاغتراب والمنافي. 

العدد 1105 - 01/5/2024