الحوار بين السوريين اليوم أساس راسخ لمستقبل آمن!

لم يحقق جنيف 2 حتى الآن، للسوريين، ما كانوا يأملونه، غير أن ذلك لا يعني أن النتيجة كانت صفراً.. فبالحدّ الأدنى انفتح أمام السوريين، وإن ببطء، بانعقاد جنيف،2 باب الحل السياسي، الذي يعني وينبغي أن يعني، بالدرجة الأولى، وقف نزيف الدماء. وإذا كان جنيف 2 لم يحقق ذلك في جولتيه الأولى والثانية، فإن الأمل يبقى معقوداً أن الجولات القادمة ستُفضي على نحو أو آخر، إلى قرار واضح بوقف إطلاق النار، وقرار كهذا سيعطي دفعاً أكبر للعملية التفاوضية نحو (إنجازات) تخفف قليلاً أعباء الكارثة التي يعيشها السوريون، أو تحدّ منها، وصولاً إلى الاتفاق على صياغة مستقبل البلاد.

ولكن، لماذا لم يصل الحوار في الجولتين الأولى والثانية إلى نتيجة ملموسة؟

علينا.. أولاً، ألا يغيب عن أذهاننا وألا نتجاهل، أن جنيف 2 هو حصيلة توافق دولي  – إقليمي.. غير أن هذا التوافق ظل في الإطار العام، دون أن يصل إلى توافق ملموس حول تفاصيل الحل السياسي.. ولهذا الوضع جانبان: إيجابي، وسلبي، فالإيجابي، أنه يترك للسوريين الذين يجلسون وسيجلسون على طاولة الحوار، بإشراف الأخضر الإبراهيمي، أن يتفقوا على التفاصيل، وأن يحددوا الخطوات الملموسة، وقد يحددون الأطر الزمنية لكل خطوة.. وهذه الإيجابية يمكن أن تتعمق وأن تصب تماماً في مصلحة السوريين شعباً ووطناً، حين يتكامل تمثيل السوريين على جانبي طاولة الحوار.. فإذا كان صحيحاً ما يقال عن (ضعف) في التمثيل يسم وفد (الائتلاف)، فهو فعلياً يمثل جزءاً من (الائتلاف)، وهناك أطياف واسعة من المعارضة، أو تصنّف نفسها في المعارضة، غير ممثلة في التفاوض، لعل أبرزها (هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي)، وهناك (ائتلاف قوى التغيير السلمي)، و(تيار بناء الدولة)، وبعض الأحزاب الكردية التي ليست في الهيئة ولا في (الائتلاف).

وبالمقابل، فإن الوفد الحكومي السوري، لا يدعي (حصرية التمثيل) ولا(العصمة)، وبالتالي يصبح مطلوباً وضرورياً تدعيم قوة هذا الوفد، بإشراك ممثلين لقوى وأحزاب وطنية، لها حضورها العريق على الساحة الوطنية، وشاركت مثلاً بفعالية في اللقاء التشاوري (تموز 2011)، فلم يعد مقبولاً أن يستمر هذا التفرد في القرار وخصوصاً في قضايا مصيرية، فإذا لم تفعّل مواد الدستور الجديد اليوم، وكان يفترض أن تفعّل منذ سنة، بعد إقراره في الاستفتاء مباشرة، فمتى سيكون ذلك؟ وهل يرى البعض مناسباً أن تستمر الممارسات واتخاذ القرارات كما لو أننا ما زلنا تحت سطوة المادة 8 في الدستور السابق؟

أما الجانب السلبي فيما يتعلق بالتوافق الدولي الإقليمي المشار إليه، فيتمثل في إمكانية أن تتواصل (حرتقات) بعض الأطراف الدولية والإقليمية، للتشويش على مسار جنيف ،2 دون أن تتنكر له أو تدير الظهر تماماً للعملية السياسية، ويندرج في هذا الإطار قرار الكونغرس الأمريكي بمواصلة تسليح (المعارضة المعتدلة)، وقرار السعودية بضخ مزيد من الأسلحة، وربما النوعية، وغير ذلك مما يمكن عدّه محاولات لزيادة أوراق القوة، ولتحصيل مواقع أفضل على الخريطة التي ستحدد ملامح مستقبل المنطقة.. إذ ليس وارداً أن ننتظر أو نتوقع أن تتخلى السعودية ببساطة، عن نفوذها الذي اعتادت أن تمارسه هنا وهناك، مرّة، بوصفها حامية الأماكن المقدسة، وموئلاً لحج المسلمين من العالم، ومرّات بأموالها وعلاقاتها.

ثانياً.. إن الأزمة- الكارثة التي تفاقمت على مدى هذه السنوات الثلاث كانت ومازالت شديدة  التعقيد، ولم يكن ولن يكون سهلاً على طرفي التفاوض في الجولتين الأولى والثانية، أن يترجلا عن السقف العالي الذي حدده كل منهما لما يريده.. غير أن ذلك سيصبح ممكناً وأكثر سلاسة، إذا ما جرى التوسيع، أو ما سميناه تكامل التمثيل على جانبي الطاولة.. وخصوصاً إذا ما توقف بعد ذلك وقف إطلاق النار، ووقف النزيف، بل يمكن إذا توقف إطلاق النار مثلاً، وهدأت مناطق القتال والتوتر، أن ينتقل جنيف كله، بقضّه وقضيضه، إلى دمشق، وهذا ما سيحمّل السلطة والمعارضة مسؤولية أكبر، ويصبح ضرورياً أكثر أن يقدموا للشعب إنجازات ملموسة، في حلحلة تعقيدات الأزمة، وهي، في الوقت ذاته، ممهدات وتهيئة مناخ مناسب لانتقال المتحاورين إلى دمشق، ومن ذلك إطلاق سراح المعتقلين والمختطفين، وفكّ الحصار عن المناطق المحاصرة، أو بالحد الأدنى تخفيفه، لتسهيل وصول المساعدات ومقومات الحياة لمئات الألوف من السوريين، وأن تبدأ عودة المهجرين في الداخل والخارج إلى مناطقهم ومدنهم وقراهم.. وغير ذلك مما يتوق السوريون إلى تحقيقه.

ويمكن حينئذ أن ينبثق عن الحوار هيئة ترسي الأساس لعقد اجتماعي جديد، يتجلى هذا العقد في دستور عصري، ديمقراطي يعرض للاستفتاء، ويجري التوافق تبعاً للدستور، على قانون انتخابي ديمقراطي.

وثالثاً.. لم يصل الحوار في الجولتين السابقتين إلى نتائج ملموسة، لأن كلا الطرفين ركز على الجانب السياسي، وسعى بيديه ورجليه وأسنانه لانتزاع (انتصار) على الطرف الآخر، فالوفد الحكومي يؤكد أولية مكافحة الإرهاب الذي أرهق سورية وشعبها، أما الطرف الآخر (الائتلافي) فما يهمه من جنيف ،2 البدء بالمرحلة الانتقالية ونقل السلطة قبل أي حوار آخر.. وفي الواقع إن استمرار جولات جنيف على هذا النمط يأتي على حساب الشعب، وعلى حساب دماء السوريين ومعاناتهم ومستقبلهم، مادام الوصول إلى توافق ملموس بين الطرفين في هذا الجانب أمراً صعباً. ولم يوضح كلا الطرفين رؤيتهما لمستقبل سورية الاقتصادي الاجتماعي، ذلك أنه لا يكفي أن يقال إن الشعب السوري سيقرر، فالشعب، صحيح أنه سيقرر، ولكن على الطرفين أن يقدما أولاً رؤية واضحة للمستقبل، لا من الجانب السياسي فقط، بل على كل صعيد.

ورابعاً.. لم يصل المتفاوضون في جنيف إلى شيء ملموس، لأن ما يجري على الأرض ليس (ممسوكاً) تماماً من الطرفين، بل إن ما يجري على الأرض قد يفرض، وهو يستدعي، أن تتحد قوى الطرفين في مواجهة الإرهابيين التكفيريين ممن قدموا من خارج سورية، وهذا ما كانت قد دعت إليه موسكو أكثر من مرة.

أخيراً.. إن معاناة السوريين والتضحيات والخسائر البشرية والمادية، تقتضي أن ترتقي أطراف التفاوض إلى المستوى المناسب، وأن يقدموا لهذا الشعب بكل مكوناته مايستحقه من حياة حرة عزيزة كريمة على أساس المواطنة وحقوق الإنسان.

وكلما ارتقى الحوار الجاري بين السوريين إلى مستوى التضحيات، ومستوى الآمال والتطلعات، فإنه يصبح أساساً راسخاً لمستقبل سياسي اقتصادي اجتماعي، ديمقراطي عادل وآمن.

العدد 1104 - 24/4/2024