من الصحافة العربية العدد 628

جيلنا الذي لم ينكسر.. من 25 أيار إلى سورية

شيء ما كان خارج السرب.. خارج المنطق العام السائد في السياسة. في منطق العرب، وسياسة العرب، وفي منطق المصالح الإقليمية والدولية. شيء يخالف المتعارف عليه أن يكون مقبولاً، مرغوباً ومشروعاً. وهو ليس كذلك لأنه يضع الأمور في نصابها الصح، فالقدس أقرب من كابول، وأولى منها.

جيلك لم يعرف الهزيمة. (نكسة الـ67) لا تحسب من أيامنا. ومؤامرات حرب تشرين الـ73 لم تنغص على طفولتنا طعم الانتصار. وفي غزو الـ،82 كنا بعنفوان المراهقين نبكي أمام شموخ بيروت وأهلها والفدائيين. وكانت شرارات المقاومة تشتعل رويداً رويداً في كل نواحي لبنان. وكان الشيخ راغب يطلق طلقته الأولى: المصافحة اعتراف.

وكان الاحتلال بين بيوتنا، وكانت أبصارنا تشخص إلى فلسطين. ولم يفهم المحتل كيف يمكن لشعب أن ينتفض بهذا الشكل في عاشوراء النبطية، وصور ومعركة والزرارية، وبأي منطق تصطف النسوة في مواجهة دبابة، وتعلو زغرداتهن في عرس سناء محيدلي وبلال فحص؟ ولماذا تصبح (السفير) سلاحاً ممنوعاً عن الجنوب، يهرّبها المحبون بين ملابسهم! وكيف يصبح الاعتصام المدني في جبشيت حدثاً عالمياً، شرارته ستفضح الاحتلال في اللحظة التي كان ذلك (المنطق) يقول، إن المحتل، كما هو متوقع ومرسوم، منتصر لا محالة.

وكنا نشتعل حباً مع انتفاضة الحجارة في فلسطين في الـ87. ونستردّ لناجي العلي روحه. وكان المقاومون يصعدون إلى سجد والدبشة والشقيف وتومات نيحا.. وأياديهم إلى عمق (الشريط)، تصل، وتفك ألغاز التحصينات والمدرعات وأسرار الخطط العسكرية.

ولم ينكسر جيلنا لا باغتيال (سيد المقاومة) في الـ،92 ولا في عدوان الـ93. أما (عناقيد الغضب) في الـ،96 فقد أزهر دمنا فيها، اعترافاً دولياً صريحاً بمشروعية المقاومة وبأسها. وكان خط المقاومة يتكامل وتشتد عزيمته، من طهران إلى دمشق وبيروت وصولاً إلى فلسطين. وكان عليك أن تصبر قليلاً، ليأتي العام 2000 وأنت كما أنت، لم تذق طعم انكسار.

وتسلل الاحتلال خارجاً تحت جنح الظلام. وأنت رحت تصعد للمرة الأولى في حياتك بمحاذاة ما كان شريطاً حدودياً محتلاً، من صور صعوداً إلى بنت جبيل. كل هذا لي. كل قرية، كل شتلة وشجرة زيتون ورابية. وإلى يمينك، ها هي ذي فلسطين تمتد أمامك. أرضنا المحررة الآن إلى يسارنا، لكن فلسطين إلى اليمين، ونحن شاخصون بأبصارنا إليها. أنت إذاً خارج (المنطق)! لبنان هذا كان عائداً حتماً. لدينا يقين لا نعرف مصدره، لكنه عائد مهما كان الزمن سيطول. لم نكن نخشى غدر الزمن و(الإخوة) في الداخل والخارج. أتت الطعنات من كل حدب وصوب. لكننا كنا على ثقة بسواعدنا وعقلنا. كتلك العجوز التي دفنت سراً شهيداً قضى في حديقة منزلها بانتظار أن يأتي التحرير. فلسطين إذاً هي الحلم المشتهى. هي الوجهة الحتمية لانتصارنا. هي بوصلتنا ونحن على مرمى حجر منها، خمسون سنة ونحن نخاف عليها منا ومنهم، وها هي فجأة خضراء وحزينة، تفتح ذراعيها لنا وتنهمر دموع الإخوة والأحبة على طرفي اللقاء على أسلاك الحدود.

يقال إن زعيمين عربيين فقط، حافظ الأسد وعبد العزيز بوتفليقة، اتصلا للتهنئة. أين بقية إخوة يوسف؟! كم يهوذا الإسخريوطي بينهم؟ ولماذا حلّ هذا الوجوم على وجوههم؟! أي انتصارات لكم في جعبتكم ليكون تقهقر إسرائيل بالنسبة إليكم حدثاً اعتيادياً لتخفوه عن أحفادكم؟!

ولم تتأخر فلسطين على هذه التحية في أيار. لاقت أحبتها في أيلول الذي تلاه، بانفجار الفرح في ربوعها. أشرف تحية لأشرف انتصار، ثم كان ما كان: 11 أيلول 2011 الذي أعاد تضييع البوصلة إلى كابول! وفتح، بكل عهر، بلاد الرافدين أمام غزو الإمبراطورية الجديدة. وصارت (المقاومة) متهمة بمذهبيتها لمحاصرتها، وتقييدها داخل السرب. وصارت فلسطين أكثر بعداً مرة أخرى. وضلّ (المجاهدون) عن طريقها مرة أخرى إلى تورا بورا… وسورية. انكسرنا ألماً لكننا لم نسقط. وما زلنا على قيد الأمل.

خليل حرب

(السفير)  24 أيار 2014

العدد 1105 - 01/5/2024