محمود درويش هوية متنوعة في وحدتها

ست سنوات مرت على رحيل الشاعر محمود درويش (9 آب 2008)، وما زالت جذوة شعره متوقدة، وشمس إبداعه تتألق إشراقاً وتوهجاً في سماء الجفاف العربي، المعطر بنزف الدم الفلسطيني..

(وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلّب،

كنت أهرب/ من أزقتها وأكتب باسمها موتي على جمّيزة،

فتصير سيدة/ وتحمل بي فتى حراً.

قيل الكثير عنه، وسيقال أكثر في القادم من الأيام، لكنه سيبقى أبداً فلسطيني المولد، عربي الانتماء، إنساني النزعة، منفتحاً على ثقافات العالم، متمكناً من تراثه العربي، بأجلى تجلياته، متمثلة في الشعرية العربية.

يحمل محمود درويش هوية مركبة، متعددة، منفتحة، يتطلب تفكيك محتوياتها، وفرز طبقاتها، تحليلاً دقيقاً لثقافته المنتشرة في المدى الضاربة في العمق، في عملية تفاعل وتخصيب مع التراث الإنساني، بعد إنضاجه في فرن التجربة الشخصية، والذات الإبداعية، لشاعر خبر أدواته، وعانى مخاض ولادة مخزونه المعرفي، وتحويله من آراء وأفكار ومعتقدات، إلى صور وأخيلة مبدعة.

ابتكر محمود درويش معادلاً فنياً لواقع تراجيدي، صاغه في صور تتجاوز في دلالتها ومرارتها خيبة واقع يفوق قدرة خيال الشعراء على تصويرها، لما فيه من ألم وقسوة ووحشية، مستخدماً مفردات بسيطة واضحة، وصوراً مركبة ومعقدة:

 ستقول لا! يا أيها الجسد المضرج بالسفوح وبالشمس المقبلة

(ستقول لا! يا أيها الجسد الذي يتزوج الأمواج فوق المقصلة).

محمود درويش وطن تجلى في شاعر، وقضية صُلبت على روح مبدع حول الأيديولوجيا إلى نص شعري، بعد هضمها وتخليصها من الشوائب، وتنقيتها مما قد تحمله من وعي زائف، نافذاً إلى الجوهر، مترفّعاً عن الأعراض، مقدماً مثالاً جمالياً، في تشخيص إنساني، يفيض عذوبة وغنائية، تتفاعل مع ذوات المتلقين.

لم يدخل الشاعر في مهاترات، وتجنب ردود الأفعال المرافقة لنزق بعض الشعراء وتضخّم ذواتهم، متسلحاً ببصيرة الرائي، وترفّع الحكيم، ورهافة حس الشاعر، واثقاً من ارتفاع قامته الشعرية، بلا ادعاء، أو تبجح، يكفيه من الفخر أنه تخطى أنماط القصيد السائد، مقدماً طريف الصور، وسلس العبارة، ودقة اللفظة، بجرسها الشجي في سياق موسقة الجملة، وإيقاع التراكيب، إنه شاعر إعجاز البساطة في العمق، والوضوح في الغموض الشفاف، فكان متعدداً في تفرّده، ومنوّعاً في مستويات التلقي.

هو شاعر المقاومة، بأبهى وأجمل وأسمى معانيها وأشكالها، وفي المقدمة منها، الابتكار والتجديد، والتجاوز وعدم الرضا عن المنجز، ومحاولات تفجير اللغة وتآلف المختلف، وتوحيد المتناقضات.

لم يفقد الشاعر ثقته بشعبه، وقدرته على الانتصار، رغم خيبات الهزائم، ظلت قامته عصية على الانكسار، وروحه متمردة على الخذلان، واجه موته الشخصي بطاقاته الإنسانية، وبإيمانه بحق شعبه وعدالة قضيته، ترفّع فوق آلامه، وحقق المعادلة الصعبة، بالمحافظة على فنية الشعر، مع سعة الانتشار.

في حضرة غيابك، سيبقى بردى الشحيح بمائه، الغني بتاريخه، وبقدرته على المقاومة، رفيقاً للشرفاء، وفياً للأصدقاء، حتى ولو قلّ ماؤه، ففيه من الدلالات المنفتحة على الخصب والديمومة ما يجدد شبابه ليسقي الياسمين الدمشقي.

أيها الكبير في زمن… نم في حضن الغزالة، والتَحِفْ سماءً (تسير عارية.. وتسكن أهل الشام).

(في الشام أعرف من أنا وسط الزحام

يدلّني قمر تلألأ في يد امرأة… عليَّ

يدلّني حجر توضّأ في دموع الياسمينة

ثم نام..).

العدد 1105 - 01/5/2024