من الصحافة العربية العدد 638

السنّة والشيعة… انتحار جماعي

يستطيع الباحث العربي أن يجد عشرات الدراسات والوثائق والكتب حول خطط إسرائيلية أو غربية لتقسيم الوطن العربي. يستطيع أيضاً العودة إلى التاريخ ليجد أمثلة جليّة حول نجاح تلك الخطط، لعل أبرزها سايكس بيكو وآخرها السودان. يمكن مثلاً قراءة كتاب (Carnages»» مذابح) لمؤلفه الفرنسي الموثوق جداً بيار بيان، لنفهم بالوقائع كيف عمل اللوبي الصهيوني في أمريكا والغرب لتقسيم السودان.

المشكلة الأولى عند العرب أنهم لا يقرؤون. هذا مثلاً ما يؤكده تقرير التنمية الثقافية الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي. يقول إن متوسط القراءة عند المواطن العربي ينحصر بـ6 دقائق سنوياً. نعم 6 دقائق لا تعجبوا، مقابل 200 ساعة للفرد الأوربي. معظم القراءات العربية تتعلق بعلم الفلك (الأبراج) أو كتب الطبخ والجنس أو بالإسلاميات السطحية الدخيلة، مثل تفسير الأحلام وغيرها. القراءات الإسلامية العميقة والجدية والتنويرية شبه غائبة. فقط ازداد في السنوات الأخيرة بيع الكتب السنّية والشيعية التي يتبادلون فيها أسباب التكفير والضلال.

المشكلة الثانية، أن من بات أكثر قراءة بين العرب، غالباً ما ينحو باتجاه القراءات التي تعزز قناعاته اللاغية للآخر. يكفي إلقاء نظرة على ما تضج به وسائل التواصل الاجتماعي (فايسبوك وتويتر خصوصاً)، لاكتشاف أن معظم الإسنادات الإسلامية مثلاً عند هذا الطرف أو ذاك تصبّ في خانة البحث عن وسيلة لتكفير الآخر أو تسفيهه أو إلغائه.

المشكلة الثالثة أن نسبة الأمية عند العرب كارثية، ولو أضيفت إلى المستويات المتدنية من الاقتصاد والضمانات الطبية والاجتماعية والفساد، فهي تقدم سجاداً أحمر للفتن المذهبية والإرهاب وإلغاء الآخر. هذا مثلاً تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليسكو)، يؤكد في العام الماضي، أن عدد (الأمّيين) عند العرب يقارب 100 مليون نسمة. نعم، ثلث سكان العالم العربي تقريباً أميِّون. اللافت في التقرير أن النسبة الأعلى للأمية هي في مصر، حيث تصيب 17 مليون شخص، يليها السودان ثم الجزائر فالمغرب واليمن.

ترتفع نسبة الأمية ارتفاعاً خطيراً عند الإناث لأسباب تعرفونها. مع ارتفاع نسبة الأمية ترتفع نسبة الولادات فينخفض الوعي وتزداد الاضطرابات وتصبح حركات التمرد عشوائية. من يقرأ مثلاً تحليل عالم الاجتماع إيمانويل تولد حول الثورات العربية وثورات العالم، يفهم أن الثورات التي تنجح فعلياً هي حيث تقل نسبة الولادة في العائلة الواحدة عن 2 فقط. تفسيره للأمر أن المرأة الواعية هي الأقل إنجاباً، وحين تصبح المرأة على مستوى جيد من الوعي تسعى لتصحيح المجتمع.

المشكلة الرابعة هي الفقر. وفق مكتب البنك الدولي في صنعاء مثلاً فإن الفقر ينهش لحم نحو 55 في المئة من اليمنيين. وفي مصر يقول رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء اللواء أبو بكر الجندي إن الفقر يضرب أكثر من 26 في المئة من الناس. هناك إحصاءات دولية ترفع هذا الرقم أكثر بكثير.

باختصار، إذا ما جمعنا الجهل مع الأمية والفقر، فإنما نُنتج مجتمعات قابلة للتحرك في اتجاهات كثيرة. ذلك أن النقمة على الأوضاع لا بد لها من متنفس، يبدو أن متنفسها الطبيعي اليوم هو إلغاء الآخر، فكيف لا تتعزز الفتنة المذهبية؟

هذه هي البيئة الخصبة لإنتاج ما يراد إنتاجه. أما من يزرع الفتن في تلك البيئة فهو مصالح إقليمية ودولية متناقضة عندها المشاريع والخطط والمال والسلاح. المفارقة أن الوطن العربي غني بموارده. النفط زاخر في الخليج والجزائر ودول أخرى بينها جنوب السودان. سوف يكون زاخراً أيضاً عند سواحل البحر الأبيض المتوسط. الأراضي الخصبة والثروة الحيوانية هائلة (كان في السودان قبل انفصال جنوبه 84 مليون هكتار من الأراضي قابلة للزراعة لا يستغل منها سوى ما يقارب 19 مليون هكتار. 24 مليون هكتار من المراعي. 64 مليون هكتار من الغابات. أكثر من 128 مليون رأس ماشية تكفي كل الوطن العربي). من الناحية النظرية، فإن العالم بحاجة إلى زيادة نسبة إنتاجه الغذائي بنحو 70 في المئة في العقود الثلاثة المقبلة. صناعاته الممتدة من الصين إلى أوربا بحاجة دائمة إلى مصادر نفط، كتلك الموجودة في الوطن العربي. أوضاعه الاقتصادية بحاجة إلى إبقاء الوطن العربي في حالة اقتتال وفوضى وقلق، بغية استيراد الأسلحة. (يمكن قراءة تقارير دولية كثيرة، بينها الأكثر ثقة، هو الذي يصدره معهدا سيبري وستوكهولم). يكفي أن نذكر أن دول الخليج هي الأكثر استيراداً للسلاح في العالم قياساً إلى عدد سكانها. ثمة صفقات فاقت 300 مليار دولار بين عامي 2011 و2014.

وجود إسرائيل وحده ما عاد يكفي.. كثير من الدول العربية لم تعد راغبة في قتالها أو عقدت معاهدات صلح وسلام، أو نسجت علاقات بعيداً من الأضواء. لا بد إذاً من اختراع أسباب أخرى. لا يوجد اليوم أهم من الفتنة الشيعية ـ السنية. هذا مشروع استثمار طويل الأمد يمكن أن يمتد لعشرات السنين وغير قابل للحل. هو يمنع توحيد العرب من جهة ويطوق إيران من جهة ثانية ويحول الأنظار عن إسرائيل.

يستطيع الشيعة والسنّة أن يسوقوا مئات البراهين والذرائع لتبرير اقتتالهم. بعضهم يقول إنه قتال بين الإرهاب والآخرين. بعضهم الآخر يقول إنه منع لتمدد إيران والفرس والصفويين. البعض الثالث يؤكد أن القتال هو بين مشروع مقاوم وآخر متخاذل، وأن الفتنة تعززت بعد الاجتياح الأمريكي للعراق وبعد انتصار حزب الله ضد إسرائيل. البعض الرابع يقول إنه لمنع الهيمنة. البعض الخامس يقول إنه لوأد التقسيم. كل التبريرات تحتمل النقاش. الأكيد فقط هو أن الجميع غرق في وحول الفتنة المذهبية. الأكيد أن أمة محمد تتقاتل وأن اقتتالها ليس مرشحاً للتوقف قريباً، ذلك أن كثيرين ممن يقاتلون يعتبرون مهمتهم إلهية، لا سياسية أو أمنية. في الاقتتال الإلهي وفي دفاع كل طرف عن إلهه، فهو ينشد القتال حتى الشهادة اعتقاداً منه أنه ذاهب إلى الجنة. في هذا الدفاع أيضاً يصبح كل طرف متلذذاً بمشاهدة قتلى الطرف الآخر، فيسير بينها ويصورها ويعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي التي اخترعها الغرب بينما المسلم يخترع ما يقتل به المسلم الآخر.

تتعدد الأسباب ولكن النتيجة واحدة، هو انتحار إسلامي جماعي، لن يخرج منه أي طرف سالماً. انتحار يمهد لقولبة الوطن العربي كيفما شاء أولئك الذين كتبوا فما قرأنا.

ثمة حديث نبوي شريف ومحقَّق يقول: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار). لا حل إذاً إلا باجتماع جدي بين السنّة والشيعة مهما كانت التكاليف والضغوط. لا بد من وقف هذا الانتحار الجماعي دينياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً. لا بد لرجال الدين من أن يلعبوا الدور الأبرز، خصوصاً أن اليسار العربي ومخلفاته سلموا الساحة منذ زمن بعيد لرجال الدين أو ساروا في ركبهم. ومن بقي من مخلفات هذا اليسار يكتفي بالكتابة ناقداً وكأنه لا يتحمل أي مسؤولية في ما آلت إليه أوضاع الوطن الذي كان بعضه في عهدته يوماً ما.

 

(الأخبار)، 19تموز 2014

العدد 1105 - 01/5/2024