غزة.. صمود بطولي ومفاوضات شعب مقاوم

تعكس تطورات العدوان البربري الإسرائيلي على قطاع غزة، نفسها، على الجهود الرسمية الرامية إلى وقفه، وإيجاد حلول لمسبباته أيضاً، مقبولة من الجانب المعتدى عليه أولاً. هذا في وقت تتفاعل فيه يوميات هذا العدوان على الصعد كافة، فلسطينياً وإقليمياً ودولياً، وتؤشر إلى تعقيداته من جهة، كذلك إلى تداعياته من جهة ثانية.

وخلافاً للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، منذ انسحاب القوات الإسرائيلية والمستوطنين منه عام 2005 فإن هذا العدوان يواجه معضلة كبرى، تتلخص في كيفية وقفه، وآليات الالتزام والتنفيذ.

فقد تميز هذا العدوان عن سابقيه، بضراوته وبعدد الشهداء والجرحى الكبيرين في صفوف المدنيين، كذلك حجم التدمير والأضرار المادية الكبيرة، التي أحدثها، وذلك في خطوة إسرائيلية مدروسة، هدفت وماتزال إلى إحداث شرخ بين مواطني غزة المدنيين، وقوى المقاومة على تنوعها، وهو ما لم يحصل، بل تؤكد المعطيات، إصرار شعب غزة الصامد على المقاومة، وعلى دفع ضريبة الحرية والاستقلال الكاملين.

كما شهد هذا العدوان رداً قوياً مقاوماً، شمل كل مناطق فلسطين التاريخية، وتجاوز جوار قطاع غزة ومستوطناته، واستطاع شل حركة السياحة في إسرائيل، وإرغام ملايين الإسرائيليين على النزول إلى الملاجئ، فضلاً عن فشل منظومات الردع العسكرية (القبة الحديدية وغيرها)، وما أحدثه من خسارة مادية ومعنوية في صفوف الإسرائيليين، ومن إرباكات في صفوف قيادتهم العسكرية والسياسية.

وأجبر هذا الواقع العملياتي – الميداني، غير المتوقع للإسرائيليين، إلى المجيء إلى طاولة المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، غير المباشرة، وعبر الوسيط المصري. كما فرضت يوميات هذا العدوان، وهذا الصمود الفلسطيني نفسه على أجندة هذه المفاوضات، وتالياً على الأوراق والاقتراحات المقدمة للوصول إلى حل ينهي هذا العدوان وأسبابه وتبعاته أيضاً.

ورغم الحالة العربية الرسمية المتهالكة، وغير المتناسبة إطلاقاً مع حجم هذا العدوان، وانعكاسه، في حدود ليست قليلة، على الوضع الدولي غير المتوازن تجاهه، فإنه لابد من الإشارة إلى حجم الإحراج الناجم عنه، وما أوجده من تباينات، بعضها اضطراري، في المواقف (الدولية)، المترافقة مع تضامن شعبي عالمي غير مسبوق.

وتترافق يوميات هذا العدوان الهمجي البربري، مع مداولات فلسطينية، وأخرى دولية تضامنية، تهدف إلى محاسبة إسرائيل في المحافل الدولية، بوصفها دولة معتدية، ترتكب المجازر بحق المدنيين العزل في قطاع يفترض أنه تحرر ونال استقلاله، وما يمثله ذلك من عدوان خارجي على أراضيه ومواطنيه، كما عكس هذا العدوان نفسه، وهذا الواقع العربي، واللاتوازن الدولي، على الحالة الفلسطينية، التي توحدت في مواجهته ميدانياً، كذلك في وفدها الفلسطيني التفاوضي الموحد، وفي ورقة المطالب الفلسطينية، الهادفة إلى تطوير المبادرة المصرية، بما يستجيب لحقوق الفلسطينيين.

ويسجل في هذا السياق، اضطرار حكومة نتنياهو، على تبايناتها، بسبب فشل العدوان في تحقيق أهدافه، وتداعياته الداخلية الإسرائيلية والدولية وأسباب أخرى ليست أقل أهمية، إلى أكثر من هدنة إنسانية، وأكثر من وقف مؤقت للعدوان، ومناقشة وفدها غير المقيم في القاهرة، رزمة المطالب الفلسطينية المحقة والمشروعة.

ويحاول وفدها تخفيض سقف هذه المطالب الفلسطينية، وتقليل تبعاتها على الوضع الإسرائيلي أولاً، وخاصة حول رموز السيادة الفلسطينية المستقلة على قطاع غزة.

هذا في الوقت الذي يصر فيه الوفد الفلسطيني الموحد، على وقف العدوان أولاً، وعلى فك الحصار عن قطاع غزة، وفتح المعابر بشكل دائم، وإدخال المساعدات ومتطلبات إعادة إعمار القطاع. كذلك إعادة إعمار مطار غزة وتشغيله، وبناء مينائها البحري، وحق الصيد في حدودها البحرية (12 ميلاً بحرياً) وغيرها من قضايا الاستقلال الفعلي للقطاع، وفي المقدمة ضمانات بعدم تكرار الاعتداءات الإسرائيلية.

ورغم أن هذه المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، غير المباشرة، تتواصل في ظل صمت قبور رسمي عربي، ومزيد من الإحراجات لـ(المجتمع الدولي) فإن عدالة المطالب الفلسطينية وصمود غزة ومعها شعب فلسطين في الضفة الغربية المحتلة، وفي أراضي الـ 1948 وفي دول الشتات، تؤكد أن هذا العدوان وتبعاته، ليست كسابقاته، وأن عنوان الحل هو تحقيق هذه المطالب، التي دفع الفلسطينيون في غزة ثمنها دماً غالياً، ودماراً واسعاً، وذلك يزيدهم إصراراً على التمسك بحقوقهم، التي لا يستطيع أحد إنكارها، أو التقليل منها، أو المساومة عليها.

يستمر العدوان، وتستمر الهدن الإنسانية والمؤقتة، ويستمر الصمود الفلسطيني الباسل، بتكاليفه البشرية والمادية الباهظة، في ظروف غير ملائمة ولا متناسبة مع ما يجري، ليؤكد أن قهر الشعوب غير ممكن، وأن فشل العدوان يترافق مع ازدياد الانتقادات والإدانة، وإن كانت غير كافية لإسرائيل العدوانية، ويضاعف من عزلتها، ويظهر حقيقتها للعالم أجمع.

ويؤكد أن وحشية هذا العدوان، وآثاره الكارثية، وآلامه الكبيرة، قد أعادت فلسطين إلى واجهة الأحداث، بعد سنوات خريفية عربية، وأن الرد عليها، تمثل في وحدة الموقف الفلسطيني وصموده البطولي المكلف، بوصفه الركيزة الأساسية لتحقيق المطالب الفلسطينية المحقة. وأن وصول هذه المفاوضات، غير المباشرة، إلى خواتيمها لن تثمر، إلا بإنجاز هذه الحقوق المقرّة دولياً.

العدد 1105 - 01/5/2024